تنازعت علي المنطقة العربية والشرق الأوسط دوائر نفوذ عديدة لخدمة مشاريع إقليمية ودولية. وغابت مصر عن التأثير خلال عهد النظام السابق بعد أن أخرجتها معاهدة "كامب ديفيد" واتفاقية السلام منذ عام 1979م من المعادلة الإقليمية والعربية. فقد تم عزل مصر عملياً في القمة العربية، وغاب الرئيس السادات بالاغتيال في عام 1981م وكانت له رؤية لاستعادة مصر لدورها بعد رحيل القوات الصهيونية عام 1982م، وتولي حسني مبارك مسئولية الحكم في ظروف مضطربة جدا فكان دوره أشبه بموظف رفيع المستوي ارتقي إلي مسئولية ليس مستعداً لها ولا قادراً عليها ولا مؤهلاً للارتقاء إلي مستواها العظيم: أن يكون رئيسا لوطن كان قدره علي الدوام أن يؤثر ولا يتأثر، أن يقود ولا يقاد، أن تكون له اليد العليا والكلمة العليا والرأي الأخير. واستثمر آخرون فترة الغياب الأولي لتنفيذ مشاريع و طنية خاصة ببلادهم علي أمل أن يتحكموا في مقود القيادة العربية والإقليمية.. ولعبت دول "الصمود والتصدي" دوراً عجيباً جمع شركاء متشاكسين اجتمعوا لوراثة الدور المصري. وانفرد صدام حسين بمشروعه ووظّف فيه طموحاته الشخصية ليكون زعيماً منفرداً بجيش عظيم وأمّه سبق لها قيادة المنطقة في عهد العباسيين وبأموال النفط العراقي، وتمويل الخليج الذي خشي بطش صدام وإرهابه ودمويته.. واستنزف صدام دماء وأموال العراق في مغامرتين فاشلتين وحربين في الخليج، ثم تم تدمير الحلم العربي بغزو الكويت، وهنا أدرك الخليجيون أن حمايتهم عند الراعي الأمريكي وتابعه الصهيوني.. وضاع العراق نفسه الذي أصبح شبه مقسم بين سنة وشيعة وأكراد، وجيشه العظيم أصبح مكوناً من فيالق ومليشيات ، وتقاسم النفوذ فيه الأمريكيون والإيرانيون والأتراك ، كلٌ حسب مصالحه.. حاول السعوديون وحاول السوريون بعد تحطيم العراق أن يبعثوا روحاً ما في العالم العربي، كلٌ حسب رؤيته، وانقسم العرب ، وألحقت مصر العظيمة بمشاريع قطرية ضيقة. هيمن في غياب العرب مشاريع أخري واضحة للعيان: 1- المشروع الصهيوني الذي اعتمد علي استرايتيجة محددّة تمثلت في: - إذكاء الانقسام العربي - العربي ، والفلسطيني الفلسطيني.. وتغييب مصر والعراق وسوريا ومحاصرة السعودية.. والتركيز علي البعد الاقتصادي والتجاري.. واستثمار الحرب علي الإرهاب لحصار التيارات المقاومة والإسلامية جميعاً لأنها هي المهدد الرئيسي له .. وبناء القوة النووية والعسكرية الصهيونية.. والإصرار علي يهودية الدولة الصهيونية والحصول علي اعتراف فلسطيني وعربي بها. 2- المشروع الإيراني الذي أدرك أن له فرصة عظيمة في ظل الوضع العربي المتردي، وهو مشروع قومي في الأصل يبحث عن مصالح إيران والذي وجد فرصته الكبيرة عندما ساهمت الحروب في المنطقة في التخلص من نظامي حكم معاديين لإيران في أفغانستان والعراق.. واعتمد الإيرانيون علي بناء تحالف استراتيجي مع سوريا حافظ الأسد أثناء الحرب مع العراق، نفذ منه إلي لبنان الذي دعّم فيه "حزب الله" بقوة حتي حصل علي اعتراف الحزب بالمرجعية للولي الفقيه في إيران وهي مرجعية دينية في التقليد ولها أبعاد سياسية لا يمكن إغفالها.. ثم كانت الجائزة الكبري في التمدد الإيراني في العراق بعد انهيار نظام البعث وإعدام صدام حسين وانهيار الجيش العراقي وتفككه. واستخدم الإيرانيون ذكاءهم في أمرين: أولاً: بناء علاقات ثقة مع تركيا خاصة في المجال الاقتصادي . ثانياً: العمل علي بناء قاعدة معرفية لاستخدام الطاقة النووية في الطاقة والطب وكافة الأمور السلمية، مما يؤهلهم في أي وقت للانطلاق إلي أفاق أخري إذا دعت الحاجة .. إلا أن هذا المشروع واجه صعوبة كبيرة بسبب الانعكاسات السلبية لنفوذ المراجع الشيعية المستقلة الذين أرادوا نشر المذهب الشيعي الاثني عشري الجعفري في بلاد أهل السنة مما استفز مشاعر المسلمين السنة وأدي إلي توتر مذهبي ضخم ساعد علي إشعاله وتصعيده دعم إيران الدولة والشعب والمراجع لشيعة العراق والبحرين ولبنان وأفغانستان وباكستان بصورة كبيرة جداً. 3- المشروع التركي: نظراً لازدياد النفوذ الإيراني، وتراجع الدور العربي وخطورة المشروع الصهيوني، وحاجة المنطقة إلي دور بسبب الفراغ الذي تشهده، وتزامن ذلك مع النجاحات العظيمة التي حققها حزب العدالة والتنمية في تركيا ذي الجذور الإسلامية والذي اعتمد استراتيجية ناجحة جداً لملأ الفراغ شرقاً وجنوباً بعدما فشل الاتحاد الأوروبي في احتواء رغبة الأتراك الجامحة والمستمرة للالتحاق بأوروبا، وكان الرفض الفرنسي والألماني مدعوماً بالرأي القاطع البابوي الصادر من الفاتيكان بأن أوروبا مسيحية وستظل مسيحية ولن تدخلها تركيا أبداً، مما بدّد أحلام تركيا الأتاتوركية العلمانية التي لبست القبعة بدل (الطربوش) وغيّرت الحرف العربي إلي الحرف اللاتيني، وحاربت الدين والتدين لمدة سبعين سنة أو يزيد فقد برز الدور التركي الإقليمي. اعتمد الحزب المحافظ سياسة واضحة محددة: 1- بناء اقتصاد قوي متين استرد به ثقة الشعب التركي في نفسه وفي النخبة السياسية الحاكمة مما أهله لنجاح متوال لثلاث دورات غير مسبوقة في تاريخ تركيا الحديث. 2- سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار، والتي نجحت إلي حد كبير في تهدئة الأجواء مع أرمينيا واليونان وسوريا. 3- الإصرار علي تحقيق الديمقراطية السليمة وإخراج القيادة العسكرية من المعادلة السياسية بطريقة حكيمة وعاقلة وقانونية ودستورية بهدف استكمال شروط الالتحاق بالاتحاد الأوروبي أولاً ثم الاستمرار في ذلك لبناء جمهورية جديدة. 4- استمالة المشاعر العربية والإسلامية بتأييد الحقوق الفلسطينية بقوة والدخول في معارك سياسية مع العدو الصهيوني مما أدي إلي توتر العلاقات طوال السنوات الماضية، رغم وجود شراكة استراتيجية عسكرية وعلاقات اقتصادية قوية، إلا أنه مع خروج القيادات العسكرية من المعادلة فإن تلك العلاقات ستتأثر سلباً في المستقبل القريب. 5- اعتماد سياسة الحوار والاحتواء مع إيران بعلاقات اقتصادية مؤثرة. 6- استثمار النفوذ التركي الجديد للتأثير في المنطقة خاصة في الملفين الليبي ثم السوري. الدور المصري الجديد: مصر الجديدة الحرة المستقلة الديمقراطية ستبني دورها في المنطقة العربية والنطاق الإقليمي وفق معايير واضحة محدّدة تحاصر النفوذ الأجنبي وتمنع الهيمنة الخارجية. 1- ينطلق الدور المصري من المصلحة الوطنية مرتبطة بأهمية الدور المصري عربياً وريادته وقيادته للعرب مجتمعين. 2- مصر القوة اقتصادياً تستطيع أن تقود مع العرب الآخرين علي قدم المساواة، لذلك يجب الاهتمام بتقوية مصر داخلياً في كافة المجالات خاصة الاقتصاد والتنمية، وهنا علينا تقوية العلاقات علي محورين في غاية الأهمية؛ دول الجوار اللصيقة: ليبيا بعد تحررها والسودان بعمقه الإفريقي وأرضه الخصبة وموارده المائية وثروته الحيوانية، والمحور الثاني: دول الخليج وفي قلبها السعودية التي تريد أن تطمئن علي أمنها واستقرارها وهذا لن يكون إلا في حضن عربي قوي، ومع تكامل وتفاهم إقليمي ينزع المخاوف من إيران أو تركيا، ويحول التنافس والتدابر إلي تكامل وتعاون. 3- الدور المصري العربي يتكامل ويتعاون مع الدورين التركي والإيراني ولا يتقاطع معهما ولا يتناحر مع أيهما، فهذا هو مثلث القوة الإقليمي؛ العرب والأتراك والفرس، يجمعهم الإسلام كعقيدة وحضارة وتراث وتاريخ وأهداف ومصالح مشتركة. 4- الدور المصري سيكون معتمداً علي القوة البشرية، لذلك يجب الاهتمام بالإنسان المصري: إيمانياً وروحياً، علمياً ومعرفياً، سلوكياً ومهارياً، قدوة ومثالاً، خلقاً ونموذجاً. 5- تعتمد مصر علي قوتها الناعمة متمثلة في الأزهر والكنيسة، في الجامعات والمعاهد، في الإعلام والفنون، في الصحافة والكتابة، بجانب قوتها الصلبة بجيشها القوي الحديث المسلّح بأحدث الأسلحة والقادر علي الردع . 6- مصر والعرب والإقليم ليس في حالة عداء مع أحد ولن تسعي إلي حروب مع طرف إلا إذا اضطرت إلي ذلك حماية للأمن المصري والأمن العربي والسلام الإقليمي، وهي تمد يدها إلي كل أقاليم الدنيا شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، مع اهتمام خاص بأفريقيا وآسيا من أجل تحقيق الأمن والسلم في العالم أجمع. 7- مصر تسعي مع العرب والمسلمين وعالم الجنوب للإسهام الفعّال في الحضارة الإنسانية من أجل سعادة الإنسان، كل الإنسان علي ظهر البسيطة.