بقلم : سمير غريب [email protected] فجأة تصطدم عيناك بما لا يخطر لك علي بال، في قلب الصحراء.. سبحان الله .. إنها بحيرة شاسعة . ماء يفترش الصحراء ! ماء يعيش في عزلة. تنبت علي شواطئه أعشاب وشجيرات لم يزرعها أحد. وحدها الطبيعة زرعتها. ربما حملت بذورها الرياح التي تعرف الصحراء مواعيدها وتركتها بجوار الماء فنمت . وقفت علي شاطئ البحيرة داخل مشهد مهيب : بحر من الرمال الصفراء، في قلبه بحيرة من المياه الزرقاء، حولها يتناثر الزرع الأخضر. فوقنا السماء صافية صفاء لا نراه من سحب القاهرة السوداء. حولنا الصمت، يقطعه أحيانا هفيف الهواء. مشهد مهما حاولت وصفه بأية بلاغة لن أصل إلي بلاغة واقعه المجرد. هنا شعرت لأول مرة بأهمية الكاميرا في وصف ما يفوق الوصف. أين الشعراء ؟ من تغني منهم بمثل هذا المشهد ؟ لا أتذكر إلا شعراء الحقول والحدائق الخضراء والأنهار في العصر الحديث. أو شعراء الصحراء والبيداء في الجزيرة العربية من العصر الجاهلي. لكن بحر الرمال الأعظم ليس له شعراء، رغم فرادته بين صحراء الجزيرة ووديان الأنهار! فهل أنجبت سيوه شعراء لروعة صحرائها ؟ أقول سيوه لأن أهل مصر من غير سكان سيوه لا يعرفونها. ليست بحيرة واحدة هناك، بل بحيرات . شاسعات .. معزولات .. لا يستطيع الوصول إليها إلا من يعرف شعاب بحر الرمال معرفة خبير، مزود بسيارات دفع رباعية خاصة مجهزة للخوض فوق ووسط تضاريس من الطبيعة النادرة. كان من حظنا أن معنا خبراء . حملتنا سيارة الدكتور البيلي وسائقه الخبير السنوسي إلي كل البحيرات في محميات سيوه. كانت السيارة تسير وتهبط وترتفع عشرات الكيلومترات وسط الرمال، وفجأة نلتقي بالماء. فأي لقاء !! ذهبنا أولا إلي بحيرة تسمي بالبحيرة الباردة، وهي اصغر بحيرات بحر الرمال. تأخذ من بعيد شكلا يشبه الخنجر. ثم ذهبنا الي بحيرة كبيرة ذات اسم غريب " شياطا"!وهي بحيرة مالحة تقام عليها أحيانا بعض المخيمات . قضينا علي شاطئها إلي ما قبل الغروب. احتفي بنا العاملون في المحمية بأغلي ما لديهم من طعام: خروف طهاه طاه بالطريقة التقليدية الصحراوية دفنا في الرمال الساخنة، وقلب نخلة طازج . هناك، بعيدا جدا عن الشاطئ، رأينا، مستعينين بنظارات مقربة، سربا من الطيور يتهادي علي الماء وسط البحيرة في سلام تام يفتقده البشر. قالوا لنا أنها أنواع نادرة من البط. فحسدناها. لم تكن بحيرة شياطا فقط هي الرائعة، لكن محيطها زاد منظرها روعة. بالنباتات التلقائية المتناثرة علي ضفافها، والتكوينات الصخرية والجبلية المتنوعة التي أحاطتها من بعيد. أبنا »من الأوبة أي الرجوع« إلي المدينة نستكمل حلم الصحراء في خيالاتنا. ظننا أننا رأينا أجمل ما في بحر الرمال الأعظم. إلا أن البيلي مع السنوسي كانا يخبئان مفاجأة أعظم. طلبا منا الاستيقاظ مبكرا في اليوم التالي لأن أمامنا سفرا طويلا. قلت لزملائي ربما سيأخذوننا إلي تشاد، لأن ليبيا قريبة.. إلا أننا لم نغادر رمال مصر رغم طول السفر! كانا يخبئان لنا ما هو أجمل طبيعة، وكأن ما فات كان أقل جمالا !!يا الله علي جنوب القطاع الشرقي من بحر الرمال. نزلنا عند واحات ثلاث: البحرين، نوامسية، سترة، وواد سموه »العرج«. من أين ولدت هذه الأسماء ؟ لم تكن فيها فقط بحيرات، بل وأشجار نخيل مثمرة. لكن »البطل« في هذه الواحات لم تكن البحيرات ولا أشجار النخيل . كانت التكوينات الصخرية والجبلية هي البطل. قال لنا السنوسي: سترون وادي السفينة. فرأينا كتلة صخرية ضخمة نحتتها العوامل الجوية علي شكل سفينة. وقال لنا شوفوا البوابة : فرأينا كتلة صخرية ضخمة فلقتها العوامل الجوية في وسطها فكونت شكل بوابة . وشاهدت أنا واديا رمليا فسيحا تحيط به تكوينات صخرية كبيرة، كل تكوين منها تمثال بديع، لم يبدعه نحات . فطار خيالي إلي أسوان حيث يجتهد نحاتون من أنحاء مختلفة من العالم كل عام ليصنعوا من جرانيت أسوان تماثيل في سمبوزيوم النحت. بينما هنا الطبيعة وحدها تركت لنا أعدادا كبيرة من التماثيل تفوق ما أبدعه النحاتون . كنا نمر بينها وكأننا نمر علي ديكورات مسرحية . كأن الطبيعة أبدعتها انتظارا لدراما تقع بينها . تذكرت مدن اليونان زمان أيام الفلاسفة الأوائل : ارسطو وأفلاطون وسقراط . والآباء الأول الذين علموا البشرية فن المسرح . بدأ المسرح في الحضارة اليونانية في الخلاء، في الهواء الطلق، وسط الطبيعة، وبالقرب من الجبال . فلماذا لا نستغل ما حبتنا به الطبيعة في هذا القطاع من صحراء بحر الرمال لنقيم عليها أحداثا فنية عالمية ؟ لماذا لا نقدم بين هذه الشواهد الصخرية أوبرات ومسرحيات وباليهات ؟ بل ولماذا لا نسمع صوت الموسيقي السيمفونية في صمت الطبيعة الناطق عند هذه البقعة من زخم الكون في الصحراء ؟ لماذا لا نعد عرضا للصوت والضوء لطبيعة هذه المنطقة يكون ساحرا مثلها ؟ ولماذا لا نقيم فنادق صديقة للبيئة بتصميمات تنسجم مع الطبيعة من حولها لمن يحبون سكون الصحراء وثراءها ؟ ليس ما سبق هو كل ما هناك. ففي واحة البحرين تتناثر بقايا نيزك سقط عليها . وتفترش أودية جنوب القطاع الشرقي ما لا يحصي من كائنات بحرية متحجرة تعود إلي ملايين السنين، عندما كان بحر الرمال الأعظم محيطا واسعا للمياه. قبل أن نقفل عائدين، مررنا علي منطقة تسمي " العرج " تبعد 97 كيلومترا من بلدة سيوه، بها جبل ذو شكل فريد وكأنه من طابقين . وجدنا من بعيد طابقه الأول مخرما بفتحات صغيرة. عندما اقتربنا كانت كل فتحة بوابة لكهف . دخلت أحدها فوجدت علي أحد جدرانه رسما لنخلة مثمرة، يصعد إنسان علي جانب منها ليقطف بلحها، ويتوثب حيوان علي جانبها الآخر . وهو رسم معبر عن طبيعة الواحة . وقيل لنا أن بالجبل مقابر أثرية فرعونية أغلقت؟ كما وجدنا أمام هذا الجبل هياكل عظمية بشرية متناثرة علي الرمال . تذكرت وأنا أجوس في رمال بحر الرمال بصحراء مصر الغربية حديثا لعالم الفضاء المصري فاروق الباز نشرته جريدة الأهرام في 25 مارس الماضي قال فيه : " بثت لنا الرحلات إلي كوكب المريخ صورا تثبت وجود أودية تكونت من مسار المياه علي سطحه في قديم الزمان . تمت مقارنة هذه الأودية بمسارات المياه الجوفية في جنوب غرب الصحراء الغربية في مصر بالقرب من حدودنا مع ليبيا . أثبتت هذه المقارنة التشابه الجيولوجي بين سطح كوكب المريخ وصحراء مصر الغربية في كثير من الصفات . هذه المقارنة تساعدنا كثيرا في فهم تضاريس المكانين بالرغم من بعدهما ". فلماذا لا نستغل هذا التشابه الذي تحدث عنه العالم فاروق الباز لندعو العالم لزيارة بحر الرمال عند سيوه تحت شعار : " بدلا من الذهاب إلي المريخ، تعال إلي سيوه " .. لقد اختارت الجغرافيا مصر، مثلما اختارها التاريخ، ليمنحاها أجمل وأعظم ما فيها، لكن المصريين لا يعرفون الجغرافيا، ولا يقرأون التاريخ . فبئس الجهل.