هذا يوم مربك وملغز ومثير للتساؤلات ولا تقدم وقائعه إجابة واحدة علي أي سؤال. المعني الإيجابي الكامن وراء هذا اليوم أن ميدان التحرير موجود. وأن 25 يناير يوم لم يسكن بعد صفحات الماضي القريب ولا البعيد. وأن ما أثاره هذا اليوم من معان ما زالت قادرة علي إثارة الدهشة وطرح السؤال ومحاولة البحث عن الإجابة. معناه الإيجابي أيضاً أن التحرير ليس هو التحرير فقط. ففي السويس ميدان. وفي الإسكندرية ميدان. وفي سيدنا الحسين ميدان. وفي مدينة نصر ميدان. حتي وإن اختلف الهدف من وراء التجمعات. وأن من يقصدون التحرير لم يعودوا شباب الخامس والعشرين من يناير. بل ربما تواجد هناك متظاهرون من كل الأعمار. ورافعوا لافتات من جميع الفئات ورددوا هتافات من طبقات مختلفة وأماكن متباينة. الجمعة الماضي أثبت أن العبارة التي تقول إن التحرير موجود سننزل إليه إن لم يعجبنا الحال أو انحرفت الثورة عن أهدافها أو تغولت عليها قوي الثورة المضادة. أقول إن أحداث الجمعة الماضي أثبتت أن هذه العبارة ما زالت - إلي حد ما - قادرة علي النفاذ في أرض الواقع وأن تقول هاأنذا. لكن الاقتراب أكثر من الصورة والتحديق فيها ومحاولة رؤية النصف الفارغ من الكوب بعد أن كتبنا عن النصف الملآن تطلعنا علي وجه آخر للصورة قد لا يكون بنفس القدر من البهاء والجمال. فنحن نعيش في وطن اسمه مصر. أخشي أن نقول عنه بعد فترة قصيرة كان اسمه مصر. هذا الوطن يتحلل اجتماعياً وينهار اقتصادياً. ويهدم بنياناً كاملاً للدولة القديمة دون أن يبني مكان ما يتم هدمه بناء جديداً. حتي مسمي اليوم لم يتم الاتفاق عليه بسهولة. فقبل الجمعة بأيام قال البعض إنه سيشهد الثورة الثانية. وكان الاختلاف قوياً باعتبار أن الثورة الأولي ما زالت مستمرة وأنها لم تنته بعد لأنها لم تحقق أهدافها. حتي الرقم الذي يجتمعون تحته اختلفوا بشأنه. هناك من قال مليونية ومن قال أن يكون الرقم أقل من هذا وربما أكثر. وقت المظاهرة لم يكن متفقاً عليه. البعض قال إن التظاهر يمكن أن يتحول لاعتصام لا يعرف إلا الله متي ينفض؟ أيضاً خلو الميدان من القوات المسلحة ومن الشرطة لم يحدد القوة البديلة التي يمكن أن تحفظ الأمن فيه. فمن مروا بتجربة اللجان الشعبية في يناير الماضي أدركوا أن تكرار التجربة يحتاج الاستعداد النفسي ربما لم يكن موجوداً الآن. المطالب كانت متنوعة واللافتات ألوانها ليست متناسقة. البعض تحدث عن محاكمة الرئيس السابق وأسرته وسرعة المحاكمة. لكن الأمور وصلت لبعض المطالب الفئوية خاصة لمن جاءوا من السويس يشتكون من البطالة وارتفاع الأسعار وندرة المواد التموينية وغياب الأمن. ومن لا يشكو من هذه الأمور في بر مصر كله؟ وإن كان من تجمعوا في التحرير قد مثلوا الحد الأدني في الموضوع المطروح. فإن سيدنا الحسين اختلف الأمر فيه. ومدينة نصر كانت هناك شعارات أخري مرفوعة تؤيد القوات المسلحة في كل ما ذهبت إليه وتهاجم من يهاجمها وتقف ضد من ينتقدونها. من المؤكد أن ثمة جزءاً من المشهد لم نره. هل هو الذي جري علي صفحات الإنترنت سواء بشكل معلن أو بصورة مستترة؟ وهو عالم افتراضي قد لا يعني الكثير بالنسبة للأجيال الماضية وأنا واحد منهم لكنه يعني الكثير بالنسبة للأجيال الطالعة صانعة الحدث الكبير في ميدان التحرير. بل امتدت التظاهرات لأول مرة لمدينة شرم الشيخ. حيث تجمع المئات من الشباب أمام المستشفي الذي يوجد به الرئيس السابق حسني مبارك وتجمعوا علي شكل مظاهرة تطالب بالإعدام الفوري للرئيس. في بداية المظاهرة تصور البعض أن عملية نقله من شرم الشيخ إلي طرة قد حانت وأن يوم الجمعة ربما كان مناسباً لإتمام هذه المسألة. لكن اتضح أن النقل غير مطروح وأن الأمر لا يخرج عن مظاهرة في المدينة الخالية من الناس. والتي يشكو أصحاب شركات السياحة فيها من انخفاض التردد السياحي علي المدينة بسبب وجود الرئيس وزوجته في أحد مستشفياتها. من قرأ تاريخ الثورات لا بد أن يدرك أن الأيام الرمادية التي تعقب الطلقة الأولي في عمر أي ثورة قد تكون أخطر من التحضير للثورة ومن وقائعها. من المهم أن يتوصل الجميع لما يمكن أن يسمي بلحظة ومكان الطلقة الأولي التي تدفع الأمور إلي مداها. لكن البحث عن بوصلة الاتجاه وعن الطريق في الأيام التالية لا يكون بالسهولة التي يتصورها الإنسان. وربما كان تعبير: خطوة إلي الأمام خطوة إلي الخلف أو خطوتان إلي الخلف وصف دقيق للأحوال التي نراها في مصر الآن. من الإيجابيات أن ما كان سائداً في مصر لن يعود مرة أخري. عجلة التاريخ لن تعود إلي الوراء مهما جري ومهما حدث. بل إن مجرد التوقف في نفس المكان خطر لأن الأمور تندفع إلي الأمام بقوة دفع غير مرئية. لكن مشكلة هذه الانتفاضة الشبابية الكبري التي أيدها الشعب المصري فتحولت لثورة شارك فيها جميع المصريين في المدن والقري والكفور والنجوع وأيدوها حتي وإن لم ينزلوا لميدان التحرير أو الميادين المناظرة في المدن المصرية الكبري. تكمن مشكلتها في استكمال خطوات الثورة. هل ننسي أن المعجزة حدثت عندما قرر جيش مصر أن يكون جيش الشعب المصري لا أن يكون جيش الحاكم السابق ولا جيش النظام ولا جيش الحكومة وقرر ألا يطلق رصاصة واحدة علي المتظاهرين ولو كان القرار عكس هذا لكان حالنا هو ما نراه الآن لحظة بلحظة في ليبيا واليمن وسوريا. وإن كانت هذه البلدان صغيرة القدر بسيطة التأثير قليلة العدد. فإن ما يجري فيها لو أنه جري في مصر لا قدر الله ولا كان لأصبحت النتائج مخيفة وأرقام الضحايا تستعصي علي العد. والجرحي لا يجدون من يعالجهم والمفقودون والتائهون ربما لا يعثر أهاليهم عليهم قبل سنوات قادمة. لا أحد يعترض علي التظاهر. هذا حق مشروع للجميع ومنعه أوصل الكل لمأزق 25 يناير. ولكن كيف نتظاهر ولا نعطل الإنتاج؟ كيف نعبر عن أنفسنا ولا نهدد الأمن ولا نبدد معني الدولة المصرية؟ كيف يتمتع كل مصري بحريته الشخصية مع احترام كامل لحريات الآخرين وإبقاء مطلق علي كيان الدولة المصرية التي أوشكت أن تذوب وأن تتلاشي في الفترة الأخيرة؟ مصر أيها السادة تعاني من أمرين يتقدمان غيرهما من الأمور الأخري. وهي كثيرة. الأمن الغائب. ولا أفهم سبباً واحداً لاستمرار غيابه حتي الآن. والاقتصاد المتعب الذي يزداد تعباً كل يوم. إن مصر التي قامت علي الأمن والأمان عندما تفتقد الأمن وتصبح الأسواق سداح مداح. فإن الدولة المصرية نفسها ستكتشف ذات صباح أن مبرر وجودها لم يعد قائما ولا موجوداً ولا مستمراً.