مواطنون: مستعدون لتحديد النسل في حال إنجاب الذكور! ما الذي يحدث إذا وضعت قطارا سريعا جدا علي قضبان القطار التقليدي.. وفق خبراء النقل والمواصلات، أن رحلة هذا القطار لن تستمر طويلا، وسيكون تعثره ثم انقلابه لاحقا هو النتيجة المتوقعة، إذ ينبغي أن يكون هناك تناسب بين السرعة وقدرة القضبان. والوضع في قضية الزيادة السكانية بمصر أشبه بهذه الحالة، فلدينا قطار سريع جدا، وهو الزيادة السكانية، ويسير هذا القطار علي قضبان اقتصاد منهك، غير قادر علي تحملها، فيتعثر في محطات خدمات الصحة والتعليم والإسكان وفرص العمل.. ومهما حاولت إصلاح القضبان، فإن سرعة القطار، التي لا تقل، بل تزيد، تأكل كل جهد يبذل، فيبدو الأمر أشبه بالأسطورة اليونانية، والتي عاقبت فيها الآلهة الملك الظالم »سيزيف» بإجباره بعد الموت علي دحرجة صخرة ضخمة علي تل منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التل، تفلت الصخرة دائما منه ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخري . وحاولت الكثير من الحكومات المتعاقبة في مصر تفادي مصير »سيزيف» الذي تقدمه كتب الاقتصاد كنموذج للعمل غير المنتج، وذلك عبر حملات توعية وأفلام سينمائية وتحذيرات يطلقها كبار رجال الدولة، ولكن لم يجد كل ذلك، وبتنا أمام أزمة كبري، دعت الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا إلي تشبيه الزيادة السكانية بأنها أشد خطرا علي مصر من الإرهاب.فكيف يمكن تلافي أخطاء الماضي لتهدئة سرعة القطار لحين تقوية القضبان، هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا الملف. يقول المختصون في البحث العلمي، أيا كان مجاله، إنك لن تستطيع حل مشكلة ما، قبل أن تحددها، وفي سعينا لهذه البداية الصحيحة، ذهبنا إلي عزبة الصعايدة في منطقة إمبابة، والتي توصف بأنها من أكثر الأماكن إزدحاما في القاهرة الكبري. كما يبدو من اسمها، فإن أغلب قاطنيها من ذوي الأصول الصعيدية، والذين يتمسكون بمفاهيم القبيلة، متمثلة في الإنجاب الكثير لتكوين »عزوة»، وكانت المفاجأة أنهم مستعدون للتخلي عن هذا المفهوم تحت ضغط الارتفاع الكبير في الأسعار، ولكن في حالة أن يتم انجاب ذكرين في البداية أو ذكر وأنثي. وخلال جولتنا بالعزبة، قابلنا أسرا من الله عليها بتحقيق هذه البداية فاكتفوا بذلك، بينما استمرت أسر أخري في الإنجاب وتوقفت عند خمسة أو ستة أطفال، عندما رزقت بالذكر في النهاية. كانت البداية مع عبد الحافظ علي عبد الحافظ » 67 سنة»، والذي رزق بسبعة أبناء، ومن الله عليه بأن يبكر بالذكور. عبد الحافظ، والذي جاء من محافظة سوهاج مهاجرا إلي القاهرة عام 1965، لم يكن يشغل نفسه وقتها بعدد الأبناء، فقد كان عمله في تجارة الفاكهة يهيئ له الإمكانيات التي يستطيع بها الإنفاق علي سبعة أبناء آخرين، لكنه يؤمن بأن الوضع تغير الآن، مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة. ويقول وهو يأخذ نفسا عميقا من نرجيلة كانت توجد أمامه: » نصحت ولادي أنهم ما يكتروش من الخلفة، خاصة أن ربنا اداهم الولاد ». ويضيف وقد ترك النرجيلة، ليكتسي وجه بملامح جادة: »والله انا أقسمت علي زوجة أحد أبنائي انها لو خلفت تاني مش هدخلها البيت، خاصة أن ربنا أعطاها 3 ولاد». »وماذا لو كانوا 3 بنات»؟ .. قلتها متوقعا أن يعطي نفسه برهة من الوقت للتفكير في إجابة تأتي متسقة مع رأيه السابق، ففاجأني بخروج الإجابة من فمه كالطلقة قائلا بكل جدية:» لا طبعا الوضع يختلف.. انا اللي هطلب منها تخلف تاني». ويفكر أسامة أسعد قاسم »50سنة» بنفس المنطق السابق، فقد كان يحلم بإنجاب ذكرين، ومن الله عليه بأن يرزق بهما بعد التبكير بالأنثي. ويلوم قاسم علي صديق له ظل ينجب حتي رزق بالذكر بعد انجاب 5 بنات، لكن وفي موقف مشابه لعبد الحافظ ابن محافظة سوهاج، لم يتردد في القول »كنت سأكتفي باثنين»، وذلك عندما سألته: »وماذا لو كنت قد بكرت بالذكر؟». وتكرر المنطق ذاته عند شقيقه صلاح قاسم » 40 سنة»، والذي أنجب 4 أطفال ( 3 ذكور وأنثي). ورغم تأكيد قاسم أنه لو عاد به الزمن إلي الوراء كان سيكتفي بإنجاب طفل واحد فقط، في ظل ارتفاع الأسعار الحالي، إلا أنه ومثل سابقيه لم يخجل من القول وبكل صراحة: » لكن أفضل أن يكون الطفل ده ذكر». ويبدو من الآراء السابقة أن الإنجاب قرار الرجال، ولا تتشارك فيه السيدات، وهو ما تؤكده أم إسلام » 50 عاما»، والتي كانت تبيع الخضراوات في أحد شوارع العزبة. تقول إم إسلام: »ربنا اداني اربع ولاد، كنت عايزه اكتفي باتنين، بس زوجي كان عايز ولاد كتير، عشان جالنا بنت في الأول». وتصمت للحظات اكتسي خلالها وجهها بالحزن قبل أن تضيف: » وزي ما انت شايف لا الراجل بيشتغل ولا ولاده، وانا اللي شايله هم البيت». وتعيش أم خالد »75 سنة» نفس الظروف، فقد كان إنجابها أربعة أبناء سعيا نحو تحقيق ما يسميه زوجها ب » العزوة»، لكن الوضع تغير مع أبنائها الذين نصحت من تزوج منهم بالاكتفاء باثنين علي الأكثر. وكررت نفس السؤال المعتاد عليها، وهو ماذا سيكون موقفها لو جاء الأثنان أنثي، فابتسمت قائلة: »القرار طبعا قرارهم، بس انا هيكون نفسي في ولد». ويعيش عبد الرحمن محمد»21 سنة» في أسرة تزيد علي أسرة أم خالد بفرد واحد، ليبلغ مجموعها 7 أفراد ( الأب والأم و5 أبناء). ويقول عبد الرحمن الذي يدرس في السنة النهائية بكلية التجارة: » هذه التجربة صعب تكرارها الآن بسبب غول الأسعار، وسأكتفي عند الزواج بطفل أو طفلين علي الأكثر، يعني ولد أو ولد وبنت». ولا يختلف هذا الجيل عن سابقه في الإجابة علي السؤال نفسه: » وماذا لو بكرت بالأنثي أو انجبت بنتين»، حيث خرجت الإجابة سريعة من فمه قائلا وهو يبتسم: »هكون عايز أخلف ولد طبعا». أما كريم إبراهيم » 25 سنة»، ويعمل سائق توك توك، ومتزوج منذ 3 سنوات، فقد كرر التوقف عن الإنجاب بعد أن رزق بطفل، لحين تحسن الأوضاع الاقتصادية. ولا ينكر إبراهيم أنه وتحت ضغط عائلته، كان سيضطر لتغيير هذا القرار لو كان المولود أنثي، وقال بابتسامة ملأت وجهه: »العرق الصعيدي في شخصيتنا أكيد هيخلينا نفكر بالشكل ده». ولم تعد الرغبة في الإنجاب وفق هذه الآراء منطلقة من منطق »العزوة»، أي انجاب المزيد من الأبناء، بقدر ما هي مرتبطة بالغربة في أن يكون بين المواليد ذكور، وفي سبيل ذلك قد ينجب الرجل خمسة أو ست بنات، حتي يرزق بالذكر في النهاية.