هذه النعمة التي أنعم الله علينا بها.. هذا البلد الأمين العظيم.. وهذا الخير الذي حبانا الله به ليست الأرض وليس الخصب وليس النيل وليس الفلاح العظيم.. وليست هذه الجنة التي لا نشعر أننا نعيش فيها.. هل فكرتم أن تحصوا ما في مصر من مميزات لاتوجد في أي بلد في الدنيا.. وأهم ما في مصر نحن.. بلا غرور أهم ما في مصر البشر وقد اتخذت من كلمة مصر البشر عنوانا دائما لمقالتي الأسبوعية.. ليس هناك بلد في الدنيا يضم في قلبه بشرا مثل المصريين.. والله ليس غرورا ولكنه تقرير واقع.. وأزعم أنني »لفيت الدنيا» فقد سافرت إلي أمريكا كلها وروسيا وأوروبا كلها والصين واليابان وأمريكا الجنوبية وأسبانيا والدول العربية كلها والسعودية طبعا حيث متعني الله بالحج والعمرة اكثر من مرة. وسافرت إلي تايلاند وبخاري بلد الامام البخاري رضي الله عنه وأرضاه لفيت العالم ماعدا استراليا لا أدري لماذا.. ولكن لم أجد مثل مصر.. والله ليس لأنها بلدي ولكن لأن المصري شخصية شديدة التميز وقد كتبت من قبل أن مصر هبة المصريين وليست هبة النيل لأن النيل يجري في عشر دول فلماذا الحضارة هنا؟ الحضارة هي الإنسان ومصر الحضارة والتاريخ والآثار هي هبة الانسان المصري.. ذلك الإنسان الذي ولد في مناخ يدعو إلي التأمل وإعمال الفكر.. إن المصريين هم البناة العظام وليس هناك في العالم آثار مثل أثار المصريين المصري بناء ومشيد ودائما يفكر في التشييد!! في أي قرية تجد منازل الفلاحين »مرصوصة» وفي حنو معماري بديع تجدها متجاذبة بعضها بجانب بعض لأن المصري حميم العلاقات وكنت كلما سافرت وكنت في شبابي كثيرة الترحال- فكنت- اذا سافرت لابد أن أعمل علاقة حميمية حتي لوكانت السفرة لاتزيد علي عدة أيام وهذه ليست طبيعتي وحدي ولكنها طبيعة المصريين وقد شاهدت مصريين لم يمضوا في بلده ما اكثر من أيام ولكنهم ارتبطوا عاطفيا وظلوا يراسلون اصدقاء لهم في هذه البلاد لأن طبيعة المصري »ودود» ولا ينفر من احد أبداً وهذه حقيقة قالها لي أحد اصدقائي في انجلترا فقد قال لي نحن نلتقي بأجناس كثيرة ولكن لم نكون علاقات دائمة إلا مع المصريين. ولأننا بناة عظام فالبناء المادي مثل البناء المعنوي فنحن كذلك شديدو المقدرة علي بناء العلاقات وقد قال لي صديق من روسيا أن له اصدقاء في مصر مع أنه التقي بكثير من ابناء الدول الأخري وقد قال لي: ليست الصداقة مع المصريين بسبب وإلا كنت نجحت في صداقة غير المصريين! في القرآن الكريم في سورة يوسف عليه السلام »ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» وهذا كما قلت ليس إلا للإنسان المصري الودود المرحب بكل ضيف والذي يشعر معهم الضيف بالأمان. وقد كتب أحد الضباط الانجليز في مذكراته وكان قد خدم في اكثرمن بلد في الشرق الاوسط كتب يقول وكان في الاسماعيلية.. لم أجد مثل المصريين في الود وحب الناس فقد كانوا يأتون لنا في رمضان بالأطعمة والحلوي بالرغم من أننا لم نكن في حالة صيام مثلهم ولكنهم كانوا يشعرون أن الطعام جماعة مثل الصلاة وانهم لن يحلوا لهم الطعام دون ان يطعموا الآخرين وهذه حقيقة فكلمة »بسم الله» دائما علي فم من يأكلون سواء فلاحين »في الغيط» أم أهل المدن علي مقاعدهم في المطاعم والدعوة إلي الطعام للمشاركة فيه هي دعوة شديدة الحميمية ولايوجد بشر في العالم يدعون أحداً علي الطعام أثناء تناوله إلا المصريين أما باقي بشر العالم فهم لابد أن يحضروا الطعام وبدعوة مسبقة أو اتفاق مسبق ولكن مثل المصريين هكذا كما يقولون »ع البحري» فلايفعلها إلا المصريون وبدون حساب هل يكفي الطعام أو لايكفي المهم المشاركة. وجلسة الطعام هي أهم جلسات الأمان حيث لا يأكل الإنسان إلا وهو آمن. وقد كنت أقوم بعمل أحد الموضوعات عن القمح في احد الحقول وكان وقتها موعد »ضم الغلة» أو جمع القمح كما يقول أهل بلد من الفلاحين وكان الفلاحون في وقت غدائهم يجلسون تحت الشجرة فاصروا أن اجلس وآكل معهم قبل أن أحاورهم في الموضوع وفعلا جلست وأكلت معهم وكانت ألذ أكلة في حياتي تقريبا فقد كنت جوعنة وكان الطعام »خبز فلاحي مرحرح» ومش وخيار و»لفت مخلل» وبصل »مدشوش» باليد و»سريس» وهو نوع من الخضراوات ينمو مع البرسيم.. وكانت أكلة لم أنسها حتي اليوم ليس للطعام فقط ولكن لصحبتهم الحميمية الجميلة. لماذا كان الطعام لذيذا؟ كان الطعام لذيذا للشعور بالألفة والأمان لأن الألفة تزيل أي خوف داخل الإنسان والأمان في مصر في الاشخاص وليس في المكان فقط لأن الاشخاص هم الذين يخلقون الأمان في الأماكن التي يتواجدون فيها. والقرآن دائما يسبر غور الحياة لهذا فإن الآية الكريمة في سورة سيدنا يوسف عليه السلام »ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» كان يقرر حقيقة بالأمان داخل مصر العظيمة الآمنة بأهلها فلاتوجد دولة في العالم لها هذا الأمان مثل مصر ونلاحظ ان عدم الامان موجود في أغني دول العالم والأمان في أفقر دول العالم وليس الفقر فقر المال ولكن الفقر فقر الأخلاق وفقر الإحساس بعدم الأمان. الأمان في اليمن وقد عشت في اليمن خمسة أعوام كان زوجي المهندس فؤاد كامل عبدالحليم رحمه الله كبير خبراء الأممالمتحدة هناك وكان كثيرا ما يتركنا في صنعاء العاصمة ليباشر عمله في انحاء اليمن ولم نكن نشعر بأي خوف أو انزعاج فقد كان جيراننا في ألفة شديدة معنا وفي تعاون دائم معنا وكانت لي جارة فقيرة جدا ولكنها كانت تأتيني دائما بالخبز اليمني الجميل اللذيذ وببعض الأطعمة الخاصة بهم وحاولت مرة أن أعطيها نقودا فبكت وقالت لي »انت بتسبيني» أي »بتشتميني» انت ضيفة عندنا ولابد نكرمك ثم قالت في ذكاء محسوب »مصر ساعدتنا في الحرب وأنتم لكم جمايل علينا» وتعجبت أن تكون امرأة عاملة في البيوت وفي هذا الذكاء! ولكن في واقع الأمر فإن اليمنيين يمتازون بخاصتين مهمتين جدا هما الكرم والذكاء والكرم عندهم أساسي للغرباء مهما كانت وظائفهم وتقف اليمنية بجانب سيارة أي غريب لتعطيه فاكهة أو أي شيء والترحيب عندهم مادي ولابد من العطاء ان كلمة اليمن السعيد ليست من فراغ فاليمن سعيد بأخلاق أهله وقدراتهم غير المحدودة علي العطاء. والفنون في اليمن شديدة الخصوصية مبهرة الجمال ففي حجراتهم النوافذ العليا التي يزينها الزجاج الملون والتي تساهم في جمال المكان فإن يتسلل الضوء منها بشكل جميل. وتصميم البيت اليمني وبناؤه الحجري وجدرانه الضخمة يجعل المكان رحباً محبباً للجلوس خصوصا الجلسات العربي التي ليس بها أثاث سوي الحاشيات الملونة ذات المساند علي الحوائط والتي تجعل الحميمية من أساسيات البيت اليمني. وحينما عدت إلي مصر قررت أن اكون حجرة يمني ولكني لم استطع فقط قمت بعمل مصاطب في بيتي بالاسكندرية وعليها »حاشيات» وكأنها جلسة يمني وولدي احمد وهو اليوم رجل كبير في الاربعينيات مازالت لديه ذكريات عزيزة في اليمن ومن ضمن نوادره أنه كان حينما يسأله أحد علي باب البيت من أنت يقول »أنا الاستاذ احمد» وحينما سألته لماذا تقول انا الاستاذ أ حمد؟ فقال لي »اصل السواق يقول يانعم.. يافؤاد» وأنا عاوزهم يقولون لي يا استاذ احمد. وكان سائق والده يعتقد أن اسمه الحقيقي الاستاذ احمد وأن استاذ هي جزء من اسمه. ذكريات كثيرة عزيزة علي ولا أعلم كيف حال المجتمع اليمني الآن وقد سافرت بعد ذلك مرة وقمت بعمل موضوعات مع ولدنا المصور العظيم حسام دياب وعملنا سلسلة من الموضوعات لمجلة سيدتي كانت جميلة جدا وكان عنوانها »اليمن الجبل والناس». وقد سافرت إلي بلاد كثيرة حول العالم كما قلت ولكن لم أرتبط عاطفيا سوي باليمن ذلك لأن البشر هناك مختلفون عن البشر في العالم فهم لا يعتقدون بأنك ضيف فقط ولكن يعتبرونك احد المقيمين حتي تغادر اليمن إن الود عند اليمنيين جزء من شخصيتهم. سوق الملح أما عن سوق الملح فحدث ولا حرج وأنا من هواة الشراء وخصوصا في الاسواق الشعبية لهذا فإن السوق المعروف بسوق الملح في اليمن سوق تراثي شديد الجمال بحوانيته الصغيرة والبائعين الذين يحتفظون في خاصرتهم بالخنجر اليمني وبالعمامة اليمنية وأنت حينما تدلف من البابا الضخم الكبير إلي سوق الملح سوق تشعر انك انتقلت إلي عالم آخر والي يمن أخري ولكن فيها كل ما هو يمني جدا من ملابس وحلي فضية وأقمشة وطرح وأحذية خاصة جدا. وهو سوق شديد الحميمية كما قلت لأنك سريعا ما ترتبط بعلاقة حميمية مع البائعين وتصبح جزءا من السوق الجميل وهو يشبه عندنا سوق خان الخليلي ولكنه اكثر حميمية لان البائعين جزء من اليمن القديم فهو يجلس بعمامته والخنجر في وسطه لايغادره وكأنه يجلس هنا منذ عشرات الأعوام وهم هنا لا يعرفون »الفصال» الكلمة واحدة لهذا اذا جلست تشتري فلاتساوم اختر ما تريد والبائع سوف يطلب منك الثمن مرة واحدة ولاتساوم علي الاطلاق لان البائع لايهمه البيع بقدر الكلمة الواحدة. مسجد أهل الكهف وفي اليمن مسجد يقال انه المسجد الذي جلس فيه أهل الكهف وهو مسجد تشاهده وأنت صاعد في جبل »صبر» ولاتعلم الطريق النازل إليه فهو في مكان خاص وحده ويبدو ان صاعد الجبل ولايعرفه إلا اهل اليمن فقط وحينما تراه تشعر فعلا ان هذا المكان الصعب لابد أن يكون قد عاش فيه أهل الكهف. أما النساء في جبل صبر فإنهن سافرات لايغطين سوي رءوسهن فقط ولايخفين الوجوه مثل باقي نساء اليمن وصعود جبل صبر له أصول وله أماكن وكذلك النزول كما لوكنت سوف تصعد قمة هرم خوفو ولابد لك من دليل يعرف الطريق جيدا ومنظر المسجد بقبته ومآذنه البيضاء يشعرك بالجلال فعلا وأنه مسجد غير عادي واذا رأيت كلبا في المكان ربما شعرت أنه كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد وأنك سوف تفر منهم رعبا. وفي اليمن أشعر بالنداء الاسلامي »من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» فالشعور بالأمان صيغة من صيغ الحياة في اليمن كلها وليس في مكان معين فأهل اليمن كأنهم قد »عجنوا» بماء طيب جعلهم طيبين ودودين بدرجة لاتستطيع الا ان تحبهم وتحترمهم في نفس الوقت فهم لايعرفون الكذب ولايعرفون الغش في التجارة ولا أدري هل مازالت اليمن وأهل اليمن كما هم فقد تركتهم في السبعينيات؟ إن العالم يتغيرو والناس تتغير ولكن اعتقد أن هؤلاء البشر الشديدي الصدق لا يمكن تغيرهم أو تزييفهم. انهم لايبتسمون الا لمن يبتسم لهم ولايصافحون إلا من يصافحهم والصدق عندهم أساسي في الحياة سواء في البيع أو الشراء أو السياسة. هل ياتري مازالت اليمن كم هي تعيش تراثها الشديد الخصوصية في الاسلام والسمات؟ هل ياتري مازال أهل اليمن لايهمهم المال ولكن يهمهم الأخلاق؟ هل ياتري مازال البيت اليمني فيه المقعد وفيه الحديقة وفيه النوافذ الملونة الزجاج والتي تلون الحياة بلون السعادة؟ هل ياتري مازال هناك باب شعوب وباب اليمن؟ هل ياتري مازال هناك حي: »الصافية» حيث كنت أسكن في بيت الذماري؟ ابني احمد مازال يحب اليمن جدا ودائما يتكلم عن اليمن علي أنها أجمل بلد في العالم وهي فعلا هكذا ليس بمناظرها الشديدة الخصوصية ولابوفائها لمصر بعمل نصب تذكاري لشهدائنا في حرب اليمن ولابكل ذلك ولكن بأهل اليمن البسطاء الشرفاء المرحبين بالضيف. اليمن بلد يحافظ علي تراثه ولاتهمه الحداثة في شئ سوي في التعليم وكل ما يرفع عقل الانسان. دامت اليمن وعاشت أمانا لأهلها الكرام في بساطة المسلمين في تسامح العقلاء في بساطة المثقفين دون ادعاء عاشت اليمن حصنا لأهلها الكرام.