هذا مَثَلُ إنجليزي جسدته مباراة في كرة القدم شهدها ملعب »الكامب نو» في برشلونة قبل أسبوعين.. لم تكن مجرد مباراة وإنما ملحمة إنسانية تجلت فيها قدرة البشر عندما يريدون فيستجيب لإرادتهم القَدَر.. أتحدث عن لقاء فريقي برشلونة الإسباني وباريس سان جيرمان الفرنسي في إياب دور ال 16 لدوري أبطال أوروبا.. فاز الفريق الفرنسي ذهاباً علي أرضه بأربعة أهداف دون رد.. وسلم الجميع بمن فيهم معظم مشجعي برشلونة بأن العملاق الإسباني بات فعلياً خارج المنافسة لأن من رابع المستحيلات أن يفوز إياباً بفارق خمسة أهداف ليصعد لدور الثمانية.. ولكن لاعبي برشلونة ومدربهم كان لهم رأي آخر.. فأمامهم 90 دقيقة أخري علي ملعبهم ويمكنهم تحقيق المعجزة.. صحيح أن برشلونة كان موفقاً في مباراة العودة فسجل مبكراً ولكن التوفيق لا يحالف إلا مَن يملك إرادة لا تلين ويبذل الجهد والعرق.. انتهي الشوط الأول بهدفين دون مقابل لصاحب الأرض.. وفي الشوط الثاني سجل ميسي من ضربة جزاء وبات فريقه علي بعد هدفين من صنع التاريخ.. ووسط سيطرة برشلونة سجل منافسوهم هدفاً مباغتاً »كسر قلوب جماهير برشلونة» علي حد وصف المعلق الإسباني.. كان ذلك في الدقيقة 62 ولم يعد أمام برشلونة إلا 28 دقيقة فقط لتسجيل ثلاثية لضمان الصعود المُستحيل.. استمر ارتباك الإسبان حتي الدقيقة 87.. وبينما ينتظر الجميع صافرة النهاية يحصل الإسبان علي ضربة حرة يسجل منها نجم المباراة البرازيلي نيمار ويقترب من كسب رهان مع زملائه بأن فريقهم سيحقق الحلم الصعب وسيحرز هو هدفين!!.. وحصلوا علي ضربة جزاء أخري سجل منها نيمار بطريقة مُبهِرَة لتقف جماهير الكرة في العالم علي أطراف الأصابع انتظاراً للحظة انتصار الإرادة الإنسانية.. وفي الثانية الأخيرة يرفع الساحر نيمار كرة عبقرية يودعها زميله روبرتو الشباك لترتج جنبات »الكامب نو» مُحدِثَة زلزالاً رصده مقياس ريختر في إقليم كتالونيا!!.. بالقطع هي مباراة استثنائية في كرة القدم قيل عنها »رياضياً» الكثير.. إلا أن قليلين جداً هم مَن ارتفعوا إلي مستوي اللحظة وتوقفوا عند المعجزة البشرية وتنبهوا إلي أن ما حدث علي أرض الملعب تجاوز المنافسة الرياضية وارتقي إلي دراما إنسانية فيها الكثير من الدروس والعِبر لمن يريد أن يتعلم سواء علي مستوي الأفراد أو الشعوب.. مِن هؤلاء أربعة من نجوم منتخب انجلترا السابقين لم يتمالكوا أنفسهم وقفزوا في الهواء داخل الاستوديو التحليلي مأخوذين بالإنجاز البشري الخارق وغير المسبوق الذي تحقق علي الأرض للتو ولم يترك أي مجال أو معني للتحليل الرياضي!!.. وكدتُ أفعل مثل هؤلاء النجوم من فِرط انبهاري إلا أن اللياقة البدنية لم تسعفني!!.. وعلي العكس من ذلك تماماً كان رد الفعل البليد والصادم وغير الإنساني من جانب فريق التحليل التابع لقناة الجزيرة الرياضية الذين سيطر عليهم الحزن والوجوم وكأنهم فقدوا عزيزاً لديهم، وذلك لأن النادي الفرنسي ملك للقطريين الذين يدفعون رواتبهم !!.. وللإرادة الإنسانية في تاريخنا حكايات كالأساطير.. أقربها ما حدث بعد الهزيمة العسكرية الساحقة التي تعرضنا لها عام 1967 والتي كانت كفيلة بإنهاء وجودنا كأمة لولا كلمة الشعب الحاسمة والباهرة إذ صرخ »لا» للهزيمة وفرض علي القيادة السياسية مواصلة الحرب وتصحيح المسار وإعادة بناء القوات المسلحة.. وبفضل هذه الإرادة الفولاذية بدأنا حرب الاستنزاف المجيدة لإزالة آثار العدوان.. وخلال ست سنوات فقط تحققت معجزة العبور وهو إنجاز غير مسبوق في تاريخ البشرية.. ولكن السياسة خانت السلاح وسقطنا في مستنقع »كامب ديفيد» التي سلبتنا الإرادة وروح الانتصار وفرضت علينا مسلسل سقوط نعاني من آثاره الكارثية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً حتي اليوم.. وما أحوجنا الآن إلي توفر الإرادة والرؤية لنخرج من هذا المستنقع إلي النهار ونتقدم بهمة للأمام!!.