سؤال ظل يراودني طويلا بيني وبين نفسي: ما حقيقة مشاعر الزعيم عبدالناصر تجاه عبدالحليم حافظ؟ هل كان يعتبره ابنا له وصوت الثورة الذي يتغني بها؟ أم أنه كان يتعاطف معه بسبب مرضه باعتباره ثروة قومية؟ ولماذا لم يعالج علي نفقة الدولة؟ ولماذا لم يمنحه قلادة النيل؟. من ناحية عبدالحليم فإنه لم يكن يخفي مشاعر الحب والولاء نحو عبدالناصر وكان يري أن الرئيس يشجعه ويأخذ بيده ويحميه وقت اللزوم من علي صبري والكتّاب في الاتحاد الاشتراكي الذين كانوا يهاجمون أغانيه، وكذا من صلاح نصر الذي كان يناصبه العداء لأنه رفض العمل لحساب المخابرات ولا يثق فيه.. ولذلك كان عبدالحليم يعتمد علي صداقته مع شمس بدران مدير مكتب المشير عامر وقتها لمواجهة حملات الكارهين لعلاقته مع الرئيس. وكان عبدالحليم يشعر بالمكائد والدسائس التي تحاك للنيل من مكانته لدي الرئيس.. وبدرجة أن صديقا من ذوي النفوذ حذره من هذا الصراع الخفي وقال له : احترس يا حليم.. إنهم يضيقون بالمودة بينك وبين الرئيس ولن يسمحوا بالاقتراب منه أكثر من ذلك! ولكن طموح عبدالحليم وعناده جعلاه يضاعف جهده رغم ظروفه الصحية لإرضاء الزعيم ولكنه لم يكن مقربا منه شخصيا ولم يكن يحظي بمكانة أم كلثوم! وما يلفت النظر أن عبدالناصر لم يصدر قرارا بعلاج عبدالحليم حافظ علي نفقة الدولة وبما يشعره بالاهتمام والرعاية.. والملاحظ أن عبدالناصر لم يكرم عبدالحليم في أي مناسبة ولم يمنحه أي وسام كما فعل مع أم كلثوم وعبدالوهاب في عيد العلم عام 1965، وكما حدث مع فريد الأطرش ايضا حينما حصل علي قلادة النيل من الطبقة الأولي.. ولذلك كان عبدالحليم يشعر بأسي نفسي دفين بسبب ذلك التجاهل من جانب عبدالناصر وكان يعتقد ان هناك مراكز قوي حوله تسعي لإفساد العلاقة والوقيعة بينهما.. ويبدو أن الرئيس أعطي أذنه لوشاية عن صلة عبدالحليم بالأمراء السعوديين وصداقته الحميمة معهم اثناء فترة الأزمة في العلاقات..! وتعرض لدسائس أخري من جهات أمنية ومن فنانين كبار! والملاحظ أيضا أن الذي تولي نفقات علاج عبدالحليم في باريس كان الملك الحسن الثاني وهو الذي نقله بطائرته الخاصة إلي البروفيسير " سارازان " أستاذ الكبد الفرنسي لإنقاذه من النزيف الذي فاجأه اثناء وجوده في المغرب، وكان عبدالحليم يحرص علي احياء حفل عيد جلوس الملك الحسن كل عام ويسافر مع فرقته الموسيقية إلي الرباط.. وكذلك تولي الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز دفع نفقات صديقه عبدالحليم في لندن اثناء علاجه لدي الدكتور " روجرز" ولم تدفع الحكومة المصرية شيئا ولم تتحمل أي مصاريف لعلاج 'مطرب الثورة'! ولم يكن هناك سبب مقبول لذلك! ولم يكن عبدالحليم يشكو لأحد من المعاملة التي يشوبها عدم الرضا أحيانا من جانب الرئيس رغم علاقة المودة التي كانت تربطه بأولاده وكان يزورهم في بيت منشية البكري، ولكن الذي آلمه ذلك التكريم الذي حظي به فريد الأطرش رغم أنه لم يغن للزعيم والثورة مثلما فعل بل إنه غادر القاهرة في الستينيات وتوجه إلي بيروت وأقام سنوات هناك وكان يشكو من مراقبة حفلاته الخاصة التي يقيمها لأصدقائه الشيوخ والأمراء العرب في بيته ولذلك هرب من حكم عبدالناصر!. كان عبدالحليم يعتقد في قرارة نفسه أنه يستحق معاملة أكثر اهتماما من الرئيس، ولكن يبدو أن هناك عوامل أخري أدت إلي عدم رضاء عبدالناصر ومنها صداقته مع مصطفي أمين وموقفه الغاضب بسبب القبض عليه بتهمة التخابر، وتوجه عبدالحليم إلي المخابرات وطلب من صلاح نصر أخذ اقواله في القضية، ولكنه رفض وقال له غاضبا: إبعد أنت عن الموضوع!. ولكن الرئيس من ناحيته كان يتعاطف مع عبدالحليم لمرضه ومعاناته من النزيف والألم.. وهناك واقعة محددة حينما رفع حليم سماعة تليفونه ولاحظ أن الخط " مراقب" فاتصل بشمس بدران وأبلغه بذلك، وعندما علم عبدالناصر بما حدث غضب بشدة وأمر برفع المراقبة عن التليفون فورا وتدخل بنفسه لحماية عبدالحليم من جهاز أمني محدد.. وساعتها شعر بالأمان!. ولاحظ عبدالحليم الإقلال من إذاعة أغانيه في الإذاعة والتليفزيون وشعر بالقلق من الحرب الخفية التي يتعرض لها من عدة جهات، ونصحه محمد عبدالوهاب بأن يتصل بالمشير عامر ويطلب منه التوسط لمقابلة الرئيس.. ولكنه لم يفعل حتي لا يثقل عليه..وبعدها بأيام فوجئ عبدالحليم بجرس التليفون وكان الصوت يقول: أنا جمال عبدالناصر.. وارتبك ولم يصدق أذنه، وقال له الرئيس: يا عبدالحليم متاعبك في الإذاعة سوف تنتهي وأنا سمعت أنك متضايق لإن أغانيك مش بتتذاع كتير، وأنا لا أرضي عن ذلك، لأنك ثروة قومية.. فشكر الرئيس علي اهتمامه وتقديره وأنه يشعر بمسئوليته.. فقال عبدالناصر: بس لازم تحافظ علي صحتك.. أنا رأيي أنك تتجوز علشان حد يرعاك.. وقال عبدالحليم: أوامرك ياريس.. فضحك الرئيس قائلا: الجواز مش بالأمر وإنما أتمني لك الاستقرار.. واغرورقت عيناه بالدموع من عطف الزعيم واهتمامه..!