للسيرك فنون نحترمها. لكل منها من يتقنه ويبهرنا بقدرته علي تجاوز ما هو مألوف وليس في مقدور عامة البشر.. ومن هنا يحظي فنانو السيرك بالتقدير دائما من الصغير والكبير لما يبدون من مهارات وراءها جهود مضنية للوصول إلي تلك المهارات التي تمجد قدرة الإنسان علي تجاوز التصاقه بالأرض وقدراته المحدودة ليصل هؤلاء بالجهد والمجاهدة إلي الارتقاء، بالإمكانات البشرية المحدودة ليذكرنا ذلك بمجاهدات المتصوفة الحقيقيين مع الفارق طبعا، لكن شتان ما بين هذا السيرك وسيرك آخر تم نصبه منذ عقود قليلة لنري فيه أيضا من يمشون علي الحبل.. وآخرين يمارسون فنون السحر وهي في الحقيقة فنون الشعوذة والدجل المفضوح.. ومن يوهموننا بأنهم يروضون وحوشا ضارية تهدد الناظرين وتفترس من يقترب وما هي بوحوش وما يروضون إلا عقول البشر ليتسلل إليها بالإفك والأضاليل.. تزلفا واسترزاقا.. والحق أن هؤلاء هم الوحوش الخطرة علي عقل الأمة - أية أمة - ومستقبل أية دولة - إذ تدهس في طريقها كل ما في حياتنا وتاريخنا من قيمة .. وما بقي من احترام لأنفسنا بعد زمن من المحو والطمس عبر عقود - بدأت معها محاولات للإخضاع والتطويع لكل من يريد قطع الطريق إلي المستقبل أمامنا. - أظنك قد أدركت عن أي سيرك أتحدث، إنه سيرك الإعلام الذي نصبته فضائيات شتي يتزايد ضجيجها بشكل غريب يصل أحيانا إلي حد السعار في الهزر السخيف وسيل البرامج شديدة البهرج والصخب دون معني أو هدف.. وإن كان ثمة برامج تدعي الجدية والصدق والحقيقة فإنما هي كما أشرنا تنضح بالتدليس والكذب ومعاداة الصدق والحقيقة.. وفي مجموعها تصير معزوفة كاملة أو متكاملة من هذا العداء.. الذي هو في الحقيقة عداء للوطن ومصالحه وللدولة والنظام أيا كان النظام. فهل هذا كله محض صدفة ؟ أم هو قصد مبيت؟ - الذي يؤكد أنه قصد مبيت يضر بمصلحة الوطن والدولة وأي نظام.. هو هذا البذخ في الإنفاق علي معظم القنوات الفضائية دون عائد مادي وهو الضامن الأول لاستمرار هذا الاستئثار الإعلامي! فمن يهدر الأموال تحت أقدام مسوخ بشرية بمقياس الفن والعقل، مسوخ من أنصاف الموهوبين فنيا وإعلاميا مع فقدانهم التام للتمييز إزاء الغث والسمين.. وجعلهم كل شيء جائزا ومباحا.. حتي صارت بعض هذه الفضائيات تسبح في فضاء عدمي خال من أي ثوابت أو معني.. وكأنها خرجت من منطقة الجاذبية الأرضية.. لتسقط في المادة المعتمة التي يحدثنا عنها علماء فيزياء الفضاء الكوني فضائيات لا علاقة لها بكل ما يجري علي الأرض.. بما في ذلك طبعا أرض هذا الوطن التي تئن بما تحمله من أثقال ومواجع! - وهنا يتأكد أمران. أولهما أن المردود غير المادي ضاع .. فالناس فيما أري حولي انصرفوا عن تلك الفضائيات.. ولا أظن أن هذا البهرج والضجيج الأجوف إلا من تدليس هنا أو هناك - لم يعد يجذب إلا القليل من الناس الذين ضجوا من تجاهل هذه القنوات لهم ولمشاكلهم.. ولاختفاء صورتهم وصورة واقعهم فيما تعرضه. - الأمر الثاني أن المردود المادي غير موجود أصلا .. ومهما كانت قدرة ممولي هذه القنوات فاستمرار هذا التمويل مع تراكم الخسائر مستحيل.. وهنا أذكر أن بعض الفضائيات بدأت تكشف عن خسائرها وهنا أسأل في دهشة كل المنغمسين في هذه الموجة ألم يشغلهم للحظة هاجس انتهاء اللعبة؟! ناهيك عما تخلف عن صورتهم لدي الضمير العام؟! - حين تنتهي هذه الموجة بسقوطها بما تحمله من بهرج وصخب أجوف وتدليس .. في الوقت الذي غابت فيه القنوات الرسمية التي جهد أصحاب هذه الموجة علي تهميش ماسبيرو وطمس تأثيره لتخلو لهم الساحة - فماذا بقي إلا ساحة فارغة.. مثلما خلت ساحة السياسة بغياب الأحزاب الحقيقية! نحن هنا بإزاء خطر حقيقي يستدعي الدولة - فأي فراغ يهددها - فأين سلطة الدولة إزاء هذا الخطر وأين الدستور الحريص في كثير من مواده علي حماية المواطنين والمصالح العليا؟ وأين القائمون علي الإلتزام بالدستور والقانون حراسا أمناء؟ وهل الهيئة الوطنية للإعلام أو غيرها من الممكن أن تحيي الضمير الوطني وتتدارك هذا الانزلاق؟ نحن نهتم بمواجهة الإرهاب وهذا واجب وطني محل تقدير واتفاق .. فهل هذا العبث الخطر أقل أهمية من خطر الإرهاب ودواعيه.. بل قد نزعم أن هذا العبث داعم له ولأسبابه لم تعد الأمور تحتمل أسلوب »الطناش» من جانب كثير من المسئولين . خاصة إن كان الأمر جللا وملحا. السيرك الدولي أعتقد البعض أن مجيء ترامب يبشر بنصب سيرك دولي يدهش الناظرين.. لكن الحقيقة أن ظهور ترامب هو إفراز لسيرك سابق علي ظهوره وفزاعاته. - أبرز مظاهر هذا السيرك لعبة »التلات ورقات» التي تمارسها كل القوي بالذات علي أرضنا العربية .. كل يخفي ورقة لا يصل إليها أحد - تائهة خلال الورقات الثلاث .. وهي التي تحمل حقيقة مصالحه ولب حقيقته.. وهي تترك لمن يقاتل نيابة عنها وعن مصالحها إشهار ما هو زائف من الأوراق.. وما يبغي ترويجه من أكاذيب .. مشتركا في ذلك علي طريقته .. وانظروا لهذا السيرك المخيف المنصوب في منطقتنا.. وتأملوا كم طالت هذه الحروب الضارية المهلكة بين أطراف من العرب وإخوانهم.. وسلوا أنفسكم كم وكيف اخفقت حتي الآن بعد سنوات طالت وحتي الآن مزاعم القضاء علي داعش.. وكم سالت خلال تلك السنين السوداء دماء عربية كالأنهار.. وكم طال الخراب كل شيء من حياة وحجر.. ثم تلك المشاهد المكملة للعبة اللاعبين الكبار »مدينة» لضمير الجنس البشري بل وتشكك فيه.. ملايين من البشر المشردين وغرقي من الأطفال والنسوة .. أي بلاء يصنعه هذا السيرك الدموي الذي لا يريدون له نهاية!! أتدورن الآن لم ظهر ترامب بكل هوسه ورعونته وعنصريته؟.. لأنه يحمل النهاية المحتملة للحرب الثالثة والتي بدأوا وقودها بنا.. لتمتد في لحظة إلي كل الجهات وينتهي علي الأرض هذا الجنس البشري الأحمق! ليس من شيء يرد علي هذا التشاؤم إلا أن يعيد الكبار ترتيب أوراقهم بعدل وحق.