قلت لا للتعديلات الدستورية، وقبل أن أتوجه إلي لجنة الاستفتاء دعوت إلي الرفض، بعصبية أحيانًا كانت رد فعل طبيعيا علي محاولة هندسة الموافقة التي تبناها الإعلام المرئي بكل قوته طوال ما قبل الاستفتاء . ما جري قبل الانتخابات يجب أن يدرس مطولاً في إطار آليات التلاعب بالعقول، التي تبدأ من اختيار الموضوع ونوع الأسئلة ونوعية الضيوف. كنا نعرف كيف كان أمن الدولة يتدخل في ترتيب المكلمات المليونية الليلية التي يجمع مقدموها بين أدوار الزعيم المزيف والداعية السياسي المزيف وآخر الأدوار المذيع المزيف، وبعد حل الجهاز من حقنا أن نسأل: من الذي نشر هذا العدد من السلفيين والإخوان في برامج البربشة المسائية رغم حل الجهاز؟ من الذي رفع كرسي شباب الثورة من الاستديوهات وخفض تمثيلهم إلي مجرد اتصال تليفوني من أحدهم، يزهو عليه ضيف الاستديو بقوة الكاميرا، وقد سمعت أحد شباب الثورة يتحدث تليفونيًا في صلب المواد المعدلة، بينما يتناوب عليه مقدمة البرنامج بالمقاطعة وعصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط بركل أسئلته خارج الملعب.. وكانت المستشارة نهي الزيني المشاركة معه بالحلقة شديدة الدقة عندما وصفت تخريجاته في برنامج العاشرة مساء ب "المضللة". للرجل أن يفخر باحتلاله الموقع الأول في فريق المتلاعبين بالعقول. ويحتاج تحليل خطابه في محنة التعديلات إلي مقال مستقل، لكنني تابعته علي برنامجين وصرت مطمئنا علي أننا لن نفتقد جهاد عودة. كان عصام سلطان جهاد عودة حقيقي. ولا أعرف كيف له أو لغيره أن يقنعنا بعملية اقتراع ديمقراطية فيها نعم ولا، مع توصية بأن أحد الخيارين فيه سم قاتل! لا وقت في برامج التوك شو لطرح الأسئلة المنطقية البسيطة ولا صوت يقول لهم: انتبهوا أنتم تضللوننا. علي أية حال، مارس الإخوان حقهم في الخسارة ولا أتحدث هنا عن النتيجة أتحدث عن خسارة الأرض عندما تطوعوا بترويع المخالفين في الرأي، وحملوا بكل أريحية وكرم المهمة المزدوجة بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن جلادهم أو صديقهم اللدود الحزب الوطني.. قام الإخوان بتأثيم من يصوتون ب "لا" دينيًا (وهذه حصتهم في نفي الآخرين بموجب الحق الإلهي) كما لم يحرمونا من "التأثيم" الوطني الذي طالما مارسه الحزن الوطني؛ فاتهموا المخالفين بالعمالة إلي الخارج، ولو أنهم والحق يقال لم يتحدثوا عن وجبات كنتاكي! تبدو الجماعة ملهمة في الخسارة بالانتقال السريع من حلف إلي حلف علي طريقة خسارة قريبة ولا مكسب بعيد.. لم يمض أربعة أشهر علي مهزلة الانتخابات البرلمانية التي كانت الجماعة أول من شق صف مقاطعتها، ونالها بعد ذلك ما نالها من إقصاء بتزوير مروع كان آخر قشة نخ بعدها البعير!.. وعندما انضمت الجماعة إلي صفوف الثورة تقبلها الشباب بقبول حسن وصارت فرصتها التاريخية في التواجد بين قوي جديدة تؤمن باحترام الاختلاف وبالشراكة القائمة علي نسبة كل تيار بالساحة، لكنها أدارت ظهرها لهذا الميلاد الجديد، وبدأت الحديث باسم القديم كله. في كل الأحوال أسفرت التعديلات عن تبديلات في المواقع، يحسبها البعض علي اختلاف التيارات السياسية، بينما أميل إلي اعتبار ما حدث فرزًا للجديد عن القديم. نحن أمام قديم يعشق اللعب الذي يحقق له خطف النصر الكامل، في مواجهة روح شابة تؤمن بقبول الآخر والشراكة معه، ويومًا ما ستشمل هذه الروح شباب جماعة الإخوان الذين يستحقون قيادة تنظر أبعد من قدميها. وما يثير التفاؤل أن الزمن مع الجديد لا العكس. والنتيجة النهائية للاستفتاء تقول بأن الثورة ولدت من جديد أمس الأول. وهذا ما عبر عنه الرافضون للتعديلات قبل الموافقين بمجرد رؤية الإقبال. . هرمنا ونحن نستمع إلي كذبة "العرس الديمقراطي" التي كانت أكبر عملية اغتصاب لوطن، لكن أمس الأول كان يومًا للفرح وعرسًا حقيقيًا، لم يعكره سوي غياب المسكين عجوز الفرح الذي نسيناه في زحمة الأحداث منذ 25 يناير إلي اليوم. الرجل المسن الذي كنا نراه في صور كل أفراح الديمقراطية المزيفة، يتوكأ علي عصا واثنين من الرجال الأشداء صاعدًا إلي أو نازلاً من لجنة الانتخاب، وتعليق الصورة: لم تمنعه ظروفه الصحية من أداء الواجب! أكثر من هذا لم نكن نعرف شيئًا عن الصورة ومن فيها، هل صوت الجوز الخيل الذين يسندون الشيخ أم اكتفوا بإيصاله إلي اللجنة؟ كيف يعاملونه في البيت؟ هل يوصلونه إلي الحمام بنفس العطف الذي يمارسونه أمام الكاميرا في مشوار الانتخاب؟! من كثرة تكرار الصورة بتعليقها المقتضب نشأ عندي اعتقاد جازم بأن الرجل بلا أسرة ولا حياة له خارج مهمته كشاهد زور علي الإقبال الجماهيري، وأنه "عهدة ميري" يخرج كل عام من المخازن، مع الصناديق والأختام والحبر السري وشمع إغلاق الصناديق.. افتقدته وأنا أتقدم أمس الأول في طابور طويل بين شباب وصبايا وكهول لا يسندهم أحد للإدلاء بأصواتهم. هل يكون قد احترق في أحد أقسام الشرطة أم أن فرحته بالثورة أعادته شابًا؟ أتمني أن تكون الأخيرة، يكفينا ما وقع من ضحايا، كما أتمني أن تتعلم ألسنتنا وأصابعنا وكاميراتنا الاستقامة في زمان الثورة.