ترددت كثيرا في التعقيب علي هذا البيان، خاصة وأنني بوصفي رجل قانون محترف لم أعتد أن يصدر من المحكمة الدستورية العليا سوي أحكام ملزمة لكافة سلطات الدولة بدستورية أو عدم دستورية قوانين، أو فيما ناط بها قانون إنشائها من اختصاصات أخري سواء في الفصل في تنازع الاختصاص بين الجهات القضائية أو بالفصل في نزاع يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين. كما أن البيان لم يشر من قريب أو بعيد إلي أنه صادر من الجمعية العمومية لقضاة المحكمة الدستورية العليا، لكنه تضمن ردا علي ما جاء من تعليقات حول النص المقترح للمادة 93 من الدستور المعطل، وما أوصت به اللجنة المشكلة لتعديل الدستور من إسناد مسألة الفصل في صحة عضوية مجلس الشعب للمحكمة الدستورية، وقد جاء بالبيان أن المحكمة تود أن تبدي للرأي العام في مصر بعض الحقائق، ومن هذا المنطلق فإنني سوف أعقب عليه بوصفي أحد أفراد هذا الشعب ومن المهتمين بإبداء رأيهم للرأي العام، علما بأنني سبق وأن أدليت بوجهة نظر في التعديلات الدستورية، خاصة المادة 93 من الدستور المعطل ونشرت بالصحف، من أجل ذلك فإنني أؤكد علي الأمور التالية: أولا : لم يقل أحد في أي من الآراء المنشورة والتي قرأتها جميعا أن المحكمة الدستورية تسعي من جانبها لطلب أي اختصاص لها، كما ورد ببيان المحكمة، لأن اختصاص المحكمة محدد علي سبيل الحصر طبقا لنصوص الدستور والمادة (25) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية، وليس من بينها الاختصاص بالفصل في صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب، كما لم يقل أحد فيما نشر من آراء أن محكمة النقض كانت تختص بالفصل في صحة العضوية، وإنما كانت تختص بالتحقيق في صحة تلك العضوية وإرسال تقارير برأيها لمجلس الشعب الذي كان يختص بالفصل في صحة العضوية، ولم يلتزم بتحقيقات المحكمة أو الآراء التي أدلت بها، لأن النص كان معيبا والمراد إصلاحه، باقتراح نص جديد منزه عن الأخطاء ويستند لأساس من القانون، وبيان ذلك كالتالي : إن الفصل في القرارات الصادرة من لجان فحص طلبات الترشيح لعضوية مجلس الشعب كان ومازال منعقدا الاختصاص فيه لمحكمة القضاء الإداري، بوصف أن هذه القرارات هي في النهاية قرارات إدارية تدخل في صميم اختصاص القضاء الإداري بإلغائها والتعويض عنها. إن تعديل نص المادة 93 بحيث تكون محكمة النقض هي المختصة بالفصل في صحة الطعون إضافة إلي التحقيق فيها يرجع أساسه القانوني بالدرجة الأولي إلي أن التحقيق في صحة العضوية قد يستلزم تحقيقات جنائية كتزوير أو بلطجة أو رشاوي انتخابية أو خلافه، أو أية تحقيقات أخري مما يختص به القضاء العادي، وفقا لقواعد التفسير الصحيح للقانون الذي يرتب حق المواطن في الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي الذي كفله له الدستور المعطل في نص الفقرة الأولي من المادة 68 بما يوفره هذا الحق من ضمانات لاتتحقق إلا بالقضاء العادي صاحب الولاية العامة الذي يتعين تغليب اختصاصه علي غيره من جهات القضاء، لاسيما أن المشرع لم يسلب المحاكم صاحبة الولاية العامة شيئا البتة من اختصاصها الأصيل المخول لها بموجب المادة (15) من قانون السلطة القضائية، وتختص بمقتضاه بالفصل في جميع المنازعات والجرائم عدا المنازعات الإدارية التي يختص بها مجلس الدولة، ومن ثم فإن تعديل النص المقترح بجعل اختصاص محكمة النقض بالفصل في صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب تحقيقا وحكما بأحكام لها حجية مطلقة لكافة سلطات الدولة يجد سنده فيما سبق ذكره من قواعد قانونية، كما أنه من الناحية الموضوعية فهناك من الاعتبارات الواقعية التي تتمثل في خبرة أعضاء محكمة النقض علي مدار أربعين سنة بتحقيق هذه الطعون هي مدة هذا الدستور المعطل، فضلا عن أن عدد أعضائها يزيد علي أربعمائة عضو في أعلي جهة قضائية في البلاد بما يكفل إنجاز الطعون في صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب مهما بلغ عددها خلال المواعيد المحددة في النص المقترح. ثانيا : المستقرئ للبيان يتضح له أنه تضمن أن القوات المسلحة قد عهدت بمهمة تعديل بعض النصوص الدستورية إلي لجنة مشكلة من خيرة رجالات القضاء وأساتذة القانون الدستوري، وأن اللجنة باشرت مهامها وأفرغت اجتهادها في تلك النصوص، والأمر المثير للتساؤل هو هل مناقشة مشروع التعديلات المقترحة من قبل المتخصصين من رجال القانون أو المفكرين من أبناء الشعب يتضمن غمطا أو انتقاصا من قدر هذه اللجنة العظيمة وأعضائها الأجلاء وشيخها ورئيسها الموقر وإلا فما قيمة طرح هذه الآراء علي الكافة لإبداء الرأي فيها، أو طرحها للاستفتاء علي الشعب؟ ثالثا : ورد بالبيان دفاع آخر عن اللجنة تضمن أمرا لم تقل به اللجنة ممثلة في رئيسها الموقر، وهو أن اللجنة حين ناطت الفصل في عضوية أعضاء مجلس الشعب للمحكمة الدستورية قد سايرت النهج الذي سارت عليه وأخذت به معظم الدساتير الحديثة في الدول الديمقراطية، مع أن النظام الفرنسي الذي نأخذ عنه معظم تشريعاتنا ونظمنا القانونية ومع وجود مجلس دستوري له سلطة الرقابة علي دستورية القوانين قبل صدورها، فالسائد فقها وقضاء هناك هو أن للمحاكم الجنائية بالإضافة إلي ولاية القضاء العادي لها بوجه خاص حق الرقابة علي دستورية النصوص القانونية أو الإدارية. رابعا : ورد ببيان المحكمة أنها تذكر بأن اختصاص محكمة النقض بالنسبة للطعون علي صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب كان محصورا في التحقيق فقط، وأن الفصل في صحة العضوية كان من اختصاص مجلس الشعب سيد قراره، وهو أمر لم نختلف علي القول بخطئه بسبب الصياغة المعيبة للنص، فهل يمكن تصحيح هذا الخطأ بخطأ قانوني آخر؟ أم أنه يجب تصحيح الخطأ بحيث يحقق ضمانة لمصلحة هذا الوطن العزيز تستند إلي أسس قانونية وموضوعية سبق بيانها سلفا؟ خامسا : أتفق مع ما جاء في بيان المحكمة الدستورية من أن النزاع في صحة عضوية أعضاء مجلس الشعب هو نزاع قضائي بطبيعته، وأنه يتعين أن تتولي الفصل فيه هيئة قضائية بحكم تشكيلها وضماناتها، ولكنني لاأتفق مع استحالة أن تكون هذه الهيئة سوي المحكمة الدستورية العليا، فمتي اتفقنا علي أنها نزاع قضائي بطبيعته فالقاضي الطبيعي ( القضاء العادي ) هو صاحب الولاية العامة في نظر تلك المنازعات طبقا للمادة (15) من قانون السلطة القضائية للاعتبارات القانونية والواقعية المبينة سلفا، وكم من طعون في صحة العضوية صدرت قرارات ببطلانها من محكمة النقض، واستقرت حبيسة أدراج هذا المجلس للعيب المبين بالمادة 93 المقترح تعديله.. إن الأمر في النهاية ليس سوي رأي قانوني ضمن الآراء التي قيلت تعقيبا علي التعديلات الدستورية الأخيرة، وتلك هي طبيعة المداولة القانونية بين رجال القانون.