أصبحنا لا نري حولنا إلا أنفسنا ولم يعد هناك من يحتمل خيار غيره حتي أنه لم يبق من بيننا من يقبل باختلاف الآخر معه. سيطرت نظرية «المعلم» و»الصبي» علي الحرف في «مصر» منذ أقدم العصور، وكان التدريب المباشر هو أحد أفضل وسائل التعليم في مجال الصناعات اليدوية والحرف الشائعة وتميز الصانع المصري بالمهارة والدقة والقدرة علي التفوق علي أقرانه حتي أن «سليم الأول» الغازي العثماني عندما جاء إلي «مصر» عام 1517 جمع عددًا كبيرًا من أمهر الحرفيين وأكثرهم إتقانًا وتجويدًا - وكانت منهم نسبة لا بأس بها من الأقباط - ليبعث بهم بحرًا إلي بلاده حيث يرجع إليهم الفضل في كثير من الإنشاءات الرائعة والزخارف الباقية وعمارة المساجد والقصور علي حد سواء، ويري كثير من المؤرخين أن الحرفيين المصريين عادوا إلي وطنهم بعد سنوات بشكل فردي بعد أن استبد بهم الحنين للوطن ولم يتمكنوا من التكيف مع الحياة العثمانية في ذلك الوقت، والعامل المصري الماهر المشهود له بالكفاءة هو القادر تاريخيًا علي الانشغال في صنع الحضارات المتعاقبة، ولازلت أذكر عبارة لا أنساها لأستاذ الجغرافيا الشهير ومؤسس «جامعة أسيوط» د. «سليمان حزين» أنه كان يستخدم تعبيرًا جديدًا علينا وهو تعبير «ذكاء اليدين» عندما يتحدث عن المصري القديم لأن الحضارة المصرية هي حضارة «البنائين»، وكثيرًا ما نبدي إعجابنا بحرفي مصري ماهر قائلين: «إن يديه تلفان في حرير»، تعبيرًا عن سعادتنا بما يعمل وفخرنا بما ينتج، ولكن الدنيا تغيرت والأمور أيضًا تدهورت فأصبحنا نفتقد ذلك العامل الذي يعرف أصول الصنعة وتقاليد المهنة ولم تعد هناك خطوط فاصلة بين الجيد والسيئ، بين الغث والسمين، ويوم أن تراجعت مهارة أرباب الحرف في «مصر» تراجعت معها مكانتنا واختفت أضواء الحضارة وغاب بريق التميز الذي تعودنا عليه عبر السنين، وفي ظني أن غياب التقاليد المهنية وأساليب المحاكاة التي يلتقطها «الصبي» من «المعلم» قد تراجعت معها بالضرورة قيمة الإنسان المصري وأصبحنا نتصور وهمًا أن الشهادة الجامعية هي جواز مرور للصعود الطبقي دون النظر إلي الدورات التدريبية والعلاقة ذات الخصوصية بين «معلم» الحرفة و»الصبي» الصغير الذي يشرب أصول الصنعة مثل شربه للمياه، بل إنني أعرف حرفيين كبارًا لازالوا يذكرون باعتزاز سنواتهم الأولي في محراب المهنة التي احترفوها ويذكرون فضل المعلم الدءوب الذي كان يؤمن بالتجويد والإتقان أكثر من إيمانه بكم العمل دون نوعيته، وقد جاء علينا حين من الدهر بدأنا نؤمن فيه بأهمية الشهادات علي حساب الكفاءات حتي قال «عادل إمام» عبارته الشهيرة «بلد شهادات»، و»مصر» أيها السادة ليست في حاجة إلي الآلاف من الحاصلين علي الدرجات العلمية العليا ولكنها في حاجة إلي الحرفيين ذوي الكفاءة الذين تحتاجهم التنمية الاقتصادية والإعمار الوطني، ولازلت أتذكر كيف عرضت علينا - في منتصف ثمانينيات القرن الماضي - «جمهورية كوريا الجنوبية» أن تقيم علي أرضنا أكبر مركز للتدريب الحرفي في المنطقة لتخريج الآلاف من العمال المصريين المهرة وتصديرهم إلي الدول العربية والإفريقية بشكل دوري ومنتظم وكان ذلك في مقابل أن نقيم العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع «سيول» لأنها كانت علي المستوي القنصلي فقط بينما كانت العلاقات مع «كوريا الشمالية» علي مستوي السفارة الكاملة في كل من «القاهرة»و»بيونج يانج»، ولكننا رفضنا وقتها ذلك العرض اعترافًا بفضل «كوريا الشمالية» في دعم قواتنا الجوية بقطع الغيار اللازمة أثناء حرب أكتوبر عام 1973 مع أن واقع الأمر هو أن ذلك لم يكن مصدر إزعاج للكوريين الشماليين لأن «الاتحاد السوفيتي» السابق و»الصين الشعبية» وقتها اعترفتا اعترافًا كاملاً ب»كوريا الجنوبية» ولم يكن من المتوقع أن نكون نحن في «مصر» ملكيين أكثر من الملك، ولكنها إحدي الفرص الضائعة شأن غيرها مما نفقده دائمًا بسبب عدم القدرة علي انتهاز الفرصة وتلقف العرض المطروح في وقته وقد نتباكي عليه بعد ذلك ولكنه كالبكاء علي اللبن المسكوب، لقد كانت لدينا مدارس حرفية عريقة مثل مدرسة «السكك الحديدية» (عمال الدريسة) و»مدرسة الري» (القناطر علي امتداد النيل واستراحاته المنتشرة بطول الوادي والدلتا) و»مدرسة صناعة الأثاث» (دمياط)، وكان طبيعيًا أن تتراجع قيمة الدولة المصرية بتراجع تقاليدها المهنية وميزاتها الحرفية لذلك فإنني أظن أن «مصر» في أشد الحاجة إلي مراكز تدريب مهني داخل القوات المسلحة وخارجها بحيث تمتص البطالة وتستوعب الشباب وتقدم خدمة جليلة للاقتصاد الوطني فضلًا عن تعزيز العلاقات القوية بهيئات المجتمع المدني مع القدرة علي الدفاع عن الحريات. ثقافة قبول الاختلاف خلق الله البشر أنماطًا مختلفين ولم يجعلهم قوالب متساوية لحكمة لديه ورؤية عنده حتي أن «بنان» كل مخلوق يختلف عن غيره ولو شاء الله لجعل الناس متساوين دون تفرقة أو تمييز، وقديمًا قالوا: لو اتحدت الأذواق لبارت السلع، فالتنميط طبيعة البشر والاختلاف منهج الحياة ويجب أن يدرك كل منا ذلك وأن يتصرف علي أساس أنه إنسان مثل غيره لا يجوز له أن يستأثر بما ليس له أو أن يستبد برأي بلا مبرر لذلك صدقت دائمًا مقولة «الإمام الشافعي»: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ويقابلها في الفكر الغربي عبارة «فولتير» الشهيرة: إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا للدفاع عن حرية رأي أختلف معه، ولكن الذي حدث في السنوات الأخيرة خصوصًا في الساحة المصرية هو تضييق كامل لهذه المعاني النبيلة وإنكار لحق الاختلاف بين الآراء المختلفة خصوصًا وأنه ليس من بيننا من يحتكر الحكمة أو ينفرد بالمعرفة أو يسود علي الناس بعبقرية نادرة أو عقلية متفردة، ولقد ضاقت بنا السبل في «مصر» خلال السنوات الأخيرة وأصبحنا لا نري حولنا إلا أنفسنا ولم يعد هناك من يحتمل خيار غيره حتي أنه لم يبق من بيننا من يقبل باختلاف الآخر معه أو يقبل رأي غيره بسماحة وموضوعية واحترام، وهبطت لغة الحوار تبعًا لذلك هبوطًا ملحوظًا وأصبحت محاولات تسفيه رأي الغير أمرًا معتادًا، لقد أصبح كل منا لا ينظر في المرآة إلا ليري نفسه فهو حالة خاصة وغيره قطيع يحتاج إلي من يقوده، ولا شك أن هذا النوع المتردي من التفكير قد أصابنا إصابات دامية في السنوات الأخيرة فأصبحنا نتابع التراشق بالألفاظ الهابطة ونقبل التجريح بالقول والفعل إذ أن رفض قبولنا لخيارات الآخر أصبح يعني نوعًا من احتكار الوطنية بل واحتكار الولاء لله - سبحانه وتعالي - أيضًا فنحن في سباق كاذب علي مسارات الدين والوطنية في وقت واحد نهرول في نفاق دائم وبلغة زاعقة وكأن كلا منا يصنع لنفسه عالمه الخاص ورؤيته المحدودة وأصبح يتعين علينا أن نعيد النظر في كل ذلك مؤمنين بحق الاختلاف وثقافة التعدد وروح التباين مؤمنين أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. الدور الإقليمي المصري أراحتني كثيرًا تصريحات الرئيس «عبد الفتاح السيسي» حول دعوته للمصالحة الفلسطينية في جانب والدخول في حوار بناء ومفاوضات جديدة مع «إسرائيل» في جانب آخر وهي دعوة تلقفتها الأطراف المختلفة بالترحيب، وأنا أراها شخصيًا محاولة لاستعادة الدور الإقليمي المصري والدفع به إلي ساحة المنطقة بعد أن استغرقنا الشأن الداخلي لسنوات طويلة، وتندر الكثيرون - بسعادة مكتومة - أن «مصر» غابت ولن تعود وأن شمسها غربت ولن تشرق وهي أقاويل باطلة تسيء إلي الوطن وإلي مكانته وتاريخ تضحياته فلقد كانت «مصر» تاريخيًا طرفًا مباشرًا في الصراع العربي الإسرائيلي حاربت في سبيله وفاوضت من أجله ولم تقف أبدًا أمام حواجز وقتية أو ظروف عابرة، إن «مصر» أدركت دائمًا مسئولياتها القومية ودوافعها الوطنية صيانة للمقدسات وحفاظًا علي الحقوق ورعاية للأشقاء ولم يمنعها عن ذلك عقوق البعض ولا تطاول البعض الآخر، وقد آن ل»الكنانة» أن تبسط جناحيها علي أطراف أمتها العربية تنشر السلام وتبشر بالاستقرار وتدعو إلي التعايش المشترك وقبول الآخر لأن في الحياة متسعا للجميع ويمكن أن يتحول الكل إلي رابحين بدلًا من أن يكون الجميع خاسرين، لقد دعوت في مقالات بصحف عربية مرموقة علي امتداد الأسابيع الأخيرة إلي ضرورة استعادة قوة الدفع المصرية في المنطقة لا لأننا نملك أكبر جيش فيها فقط ولا لأننا أكثر دولها سكانًا فقط ولا أقدمها كيانًا فقط ولا أعرقها حضارة فقط ولكن لسبب آخر هو أننا نمثل عمود الخيمة الذي يمكن أن تسقط بدونه، وقديمًا صدر صوت من «لندن» يقول: إذا عطست «مصر» أصيب «الشرق الأوسط» بالأنفلونزا! الخروج عن النص هي عبارة ترتبط بالأداء المسرحي وقدرة الفنان أحيانًا علي اختلاق مواقف جديدة علي المسرح وقدرته علي استخدام عبارات غير مكتوبة يستمدها من الموقف الذي يحيط به، وهي أيضًا تأكيد لرغبة كامنة في حرية الحديث بلا ضابط أو رابط، وكثيرًا ما وقع فنانون في أخطاء دفعوا ثمنها لأنهم انساقوا وراء حماس اللحظة ولم يدركوا تأثير ما يقولون علي غيرهم، والملوك والرؤساء أيضًا يخرجون علي النص لكي يكون حديثهم قريبًا إلي قلوب مواطنيهم، هكذا كان يفعل «عبد الناصر» وبعض خلفائه وصولًا إلي الرئيس «السيسي» الذي امتلك «كاريزما» من نوع خاص تقوم علي الوصال المباشر بالجماهير دون وساطة حزبية أو ظهير سياسي ولا بأس من ذلك كله بشرط ألا يتبرع المفسرون وألا يتندر المعادون وألا يسيء التأويل من يريدون، وكل زعماء العالم كانوا يتحدثون بتلقائية ويعبرون عن آرائهم في ارتجال ما لم تكن خطبًا رسمية في محفل دولي أو خطاب برلماني أو لقاء مع ضيف أجنبي وقديمًا قالوا: إن ما يصدر من القلب يصل إلي القلب أيضًا. الإعلام المصري وإفريقيا دعتني إدارة التليفزيون المصري لإلقاء محاضرة علي مجموعة رفيعة المستوي من رؤساء الأجهزة الإعلامية الإفريقية الذين دعاهم التليفزيون المصري وعقد لهم دورة تثقيفية وتدريبية التقي فيها هؤلاء الإعلاميون الأفارقة بنظرائهم من «مصر» و»الدول الإفريقية» الأخري، وقد دار بيني وبينهم حوار يتسم بالجدية والانفتاح حيث ظهر اهتمامهم واضحًا ب»مصر» مع تجاوب شديد بكل المقترحات البناءة التي تسعي لتوثيق العلاقات (الإفريقية - الإفريقية) علي المستوي الإعلامي، وقد أسعدني ذلك اللقاء كثيرًا لأنني أدركت منه أن الأخوة الإفريقية والتعلق ب»مصر» - شعبًا وأرضًا - لازالت علي ما هي عليه بعد سنوات يجب أن نعترف أننا أهملنا فيها «إفريقيا» لأسباب متعددة وأصبحنا نتعامل معهم بإرث الحقبة الناصرية، وقد تطرقت بعض أسئلتهم إلي الأوضاع الداخلية في «مصر» بعد ثورتين شعبيتين تغيرت بهما أحوال «مصر» وظروفها المختلفة، كذلك فإن رغبتهم في التواصل مع «مصر» والتدريب فيها والتعلم منها كانت واضحة هي الأخري بصورة جعلتني أشعر بأن علاقاتنا الإفريقية هي رصيد لنا ينبغي أن نحرص عليه وألا نفرط فيه، وتذكرت خمسينيات وستينيات القرن الماضي عندما كانت الإذاعات الناطقة باللغات الإفريقية تنطلق من «القاهرة» لدعم حركات التحرر الوطني الذي أسهمت فيه «مصر» إسهامًا لا ينساه أشقاؤنا الأفارقة بل يتذكرونه دائمًا بدءًا من الزعيم الراحل «نيلسون مانديلا» وصولًا إلي أصغر شاب إفريقي سمع عن دور «القاهرة» التحرري والتنويري في قارتها الأم وأدرك أن «مصر» كانت ولاتزال وسوف تظل جزءًا لا يتجزأ من القارة السمراء.