توريد 16 ألف طن قمح بصوامع القاهرة.. والمحافظ: بمثابة مهمة قومية    خبراء أمريكيون: تراجع حملة بايدن لجمع التبرعات عن منافسه ترامب خلال أبريل الماضى    مباشر دورة الترقي – الترسانة ضد حرس الحدود.. سبورتنج أمام منتخب السويس    سام مرسي يتوج بجائزة أفضل لاعب في «تشامبيونشيب»    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 الترم الثاني لمحافظة القاهرة    موعد وقفة عيد الأضحى وأول أيام العيد 2024    ضبط المتهمين باختطاف شخص بسبب خلاف مع والده فى منطقة المقطم    وزيرة التضامن تدشن مرحلة جديدة لبرامج الحماية من المخدرات بالمناطق المطورة    6 يونيو المقبل الحكم بإعدام المتهمة بقتل طفلتيها التوأم بالغردقة    هلا السعيد تكشف تفاصيل جديدة عن محاوله التحرش بها من سائق «أوبر»    رئيس هيئة تنمية صناعة التكنولوجيا: التصميمات النهائية لأول راوتر مصري نهاية العام    وزير الرى: 70 % من استهلاك المياه في الزراعة وإنتاج الغذاء    وزير التعليم العالي يبحث مع مدير «التايمز» تعزيز تصنيف الجامعات المصرية    المكتب الإعلامي الفلسطيني: توقف الخدمة الصحية بمحافظتي غزة والشمال ينذر بكارثة إنسانية    إقبال السياح على مكتبة مصر العامة بالأقصر (صور)    تضامن الفيوم تنظم قوافل طبية تستهدف الأسر الفقيرة بالقرى والنجوع    حاخامات الطائفة اليهودية فى إيران يشاركون فى جنازة إبراهيم رئيسى (فيديو)    مصر والصين تتعاونان في تكنولوجيا الأقمار الصناعية    مجلس الوزراء يبدأ اجتماعه الأسبوعي بالعاصمة الإدارية لبحث ملفات مهمة    السكة الحديد: تخفيض سرعة القطارات على معظم الخطوط بسبب ارتفاع الحرارة    تحديد ملاعب نهائيات البطولات القارية الأوروبية لعامي 2026 و2027    وزير الصحة يفتتح الجلسة الأولى من تدريب "الكبسولات الإدارية في الإدارة المعاصرة"    لمواليد برج الجوزاء.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    صحيفة عبرية توضح عقوبة إسرائيل المنتظرة للدول الثلاث بعد اعترافهم ب«دولة فلسطينية مستقلة»    مسابقة 18 ألف معلم 2025.. اعرف شروط وخطوات التقديم    «جولدمان ساكس»: تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر ستصل إلى 33 مليار دولار    مصدر مصري رفيع المستوى: من الغريب استناد وسائل إعلام لمصادر مطلعة غير رسمية    موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بورسعيد    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "لحصد المزيد من البطولات".. ليفاندوفسكي يعلن البقاء في برشلونة الموسم القادم    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    أبرزهم بسنت شوقي ومحمد فراج.. قصة حب في زمن الخمسينيات (صور)    تكريم نجوم الفن احتفالاً بالعيد الذهبي لجمعية كتاب ونقاد السينما    فرقة طهطا تقدم "دراما الشحاذين" على مسرح قصر ثقافة أسيوط    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    هربا من حرارة الطقس.. مصرع طالب ثانوي غرقا أثناء استحمامه في ترعة بأسيوط    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    مستجدات أزمة انضمام لاعبي الأهلي إلى معسكر منتخب مصر    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    مرفق الكهرباء ينشر ضوابط إستلام غرفة المحولات للمنشآت السكنية    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    سفير الاتحاد الِأوروبى بالأردن: "حل الدولتين" السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية    رئيس فرنسا يفشل فى اقناع بيريز بالتخلى عن مبابى فى أولمبياد باريس 2024    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    5 نصائح غذائية للطلاب خلال فترة الامتحانات من استشارية التغذية    البيت الأبيض: إسرائيل وافقت على طلبات أمريكية لتسهيل إيصال المساعدات إلى غزة    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    اجتماع الخطيب مع جمال علام من أجل الاتفاق على تنظيم الأهلي لنهائي إفريقيا    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
السلطان الرضيع
نشر في الأخبار يوم 09 - 03 - 2011

من يصدق ان مصر حكمها يوما طفل عمره ستة شهور؟، جري ذلك في العصر المملوكي، وكم عرفت مصر من المضحكات المبكيات.
لماذا العصر المملوكي؟
لانه الاقرب إلي زماننا بل يمكن القول ان قيمه هي السائدة وبالتحديد في العقود الاربعة الاخيرة، اقول الاقرب لان المماليك وهم الاغرب عن مصر اخلصوا لها وحاربوا من اجلها وشيدوا حضارة عظيمة اكثر من اولئك الذين نهبوا مصر بشكل لم نعرفه منذ ايام مينا موحد القطرين، ما يجمع العصرين هو الشخصنة تركيز الدولة في شخص. وبالتالي تصبح نظراته وحركاته وايماءاته ورضاه وغضبه بديلا للدستور والقانون.
انني اتحدث عن العصر المملوكي الاول الذي كانت مصر فيه دولة مستقلة تحمي البحرين والحرمين.
اما العصر المملوكي الثاني فهو الذي تحولت فيه إلي ولاية بعد استعمارها من قبل العثمانيين، وذلك عصر الفوضي الذي اختفت فيه الدولة وهذا ما ندعو الله ان يبعد مصر عنه، ورغم بشاعة ما جري فيه لم نعرف في مصادر التاريخ حدثا يشبه انسحاب الشرطة من الشوارع من المدن المصرية، هذا حدث مروع وحرب علي الشعب المصري شنها من كانوا اقسي عليه من الاجانب.
خلال الفترة الاخيرة بدأ السباق نحو رئاسة مصر، ومع احترامي للشخصيات التي تحتل الواجهة فلا اري منها واحدا يليق، غير ان التاريخ يعلمنا امكانية تحقق اللامعقول، وفي هذه اليوميات استعيد حقبة اعقبت موت الملك المؤيد شيخ الذي قتل ابنه بالسم وبعد ان مات لم يجدوا إلا طفله الرضيع لكي ينصبوه سلطانا، كيف جري ذلك؟
إليكم التفاصيل
من يحكم؟
».. فلما كان يوم الاحد سابع وعشرين ذي القعدة من سنة احدي وتسعمائة توفي الملك الاشرف ابوالنصر قايتباي المحمودي ا لظاهري، دفن في اليوم التالي، رحل بعد ان حكم مصر والديار الشامية تسعا وعشرين سنة واربعة اشهر وواحدا وعشرين يوما، كان سلطانا عظيما شهما، وقورا وافر العقل، سديد الرأي، يتروي في الامور قبل وقوعها، شجاعا، فارسا قديرا، وكان عصره من العصور الزاهية.
بعد وفاته صار السؤال المطروح: من بعده يلي الحكم؟ كان هناك عدد من المماليك يتربص بكرسي السلطنة، مثل الامير قنصوه خمسمائة وكرتباي الاحمر، ولما كان انقضاض احدهم علي السلطة سيفجر الصراعات والحروب، فقد جرت العادة في مثل هذه الاحوال علي تولية احد ابناء السلطان حتي لو كان طفلا رضيعا.
وبمضي الايام تتم الغلبة لمن هو اقوي. هكذا وقع الاتفاق علي سلطنة ابن السلطان، بايعه الامراء من غير موافقة والده الذي كان يلفظ انفاسه الاخيرة، وتلقب بالناصر، كان عمره اربعة عشر عاما واشهر، يقول ابن اياس: »ولو كان قايتباي واعيا لما مكن الامراء بأن يسلطنوا ولده، ولا كان ذلك قصده«. ويبدو ان الاب كان يعرف ابنه جيدا، المهم احضرت شعائر الملك، وهي الجبة السوداء، وقد فصلت علي قده، ولفت له عمامة لطيفة مناسبة له، وقدمت اليه فرس النوبة بالسرج المذهب والكنبوشي، وتقدم الامير قنصوة وحمل القبة والطير علي رأسه، ومشي السلطان حتي جلس علي سرير الملك، وهكذا تولي امر مصر والديار الشامية حدث عمره اربعة عشر عاما دون البلوغ.
..تأسف الناس علي موت قايتباي، وخرجوا إلي جنازته، حتي ان ابن اياس يقول »وكانت جنازته مشهودة بخلاف من يموت من الملوك« ولم يستبشر الناس خيرا بالسلطان الجديد، ويبدو ان ظاهرة الحاكم القوي الذي يعقبه سلسلة من الحكام الضعاف تتكرر في التاريخ المصري، نجدها في العصر الفرعوني، رمسيس الثاني مثلا يموت، ويخلفه اثنا عشر من الرعامسة، لا يتوقف عندهم احد، خوفو الذي شيد الهرم الاكبر، ثم خفرع الاقل حجما حتي في هرمه، ثم منقرع، ثم ملوك اخرين غير معروفين، وفي تاريخنا الحديث بدأت الاسرة العلوية بمحمد علي باشا الكبير، وانتهت في القرن التاسع عشر بالخديو توفيق الخائن، والجبان، الذي نكب مصر بالاحتلال الانجليزي.
هكذا جاء الناصر ابن الرابعة عشرة خلفا لابيه قايتباي العظيم، كان جميل الهيئة مليح الشكل، ولكنه هذا النوع من الجمال الذي يخفي في طياته القبح الداخلي. والشر، والقسوة الزائدة، لم يشعر بحزن كبير علي والده، انما راح يمعن النظر فرحا في السلطة التي اصبحت فجأة بين يديه، الامراء الكبار يقبلون له الارض بين يديه، الخليفة يمشي منكس الرأس، الكل يسعي اليه، ويطلب وده، لا شيء يحول دون تحقيق رغباته، في نفس الوقت عظم امر الاتابكي قنصوة خمسمائة إلي الغاية، حتي انه لم يصل مع السلطان صلاة عيد النحر، ولا صلاة الجمعة، وفي بداية عام اثنتين وتسعمائة شعر السلطان ان الكل يتربص به، فأحضر المصحف العثماني. وحلف عليه سائر الامراء والعساكر، ولم يطلع قنصوة خمسمائة ولم يحلف في بداية الامر علي الولاء للسلطان، ولكنه طلع بعد ايام وحلف أيمانا غير صادقة، ويبدو ان السلطان الغلام شعر ببعض الاطمئنان بعد القسم، لم يكن شيء يحول دون تحقيق شهواته، بدأ طيشانه يظهر، في احد الايام قبض علي امرأة، وضربها بين يديه بالمقارع، وامر بإشهارها علي حمار وفي عنقها زنجير حديد، وهذا شيء لم يحدث قط من قبل، ان تضرب امرأة بين يدي سلطان، بل انه ضربها بنفسه، وبدا متلذذا بالضرب، مستمتعا به، ثم بدأ في النزول من القلعة ومصاحبة الاوباش، واللعب معهم، وتدخين الحشيش، واتيان الرذائل واضطر الامراء إلي احاطته بأربعة من الحاشية لمنعه من النزول واللعب مع اولاد العوام وصار الأمير تاني بك الجمالي يبات عنده كل ليلة في القلعة ليمنعه من ذلك، ولكن رغبات السلطان كانت اقوي، وشهواته اعنف، وطيشه اعظم، ولم يكن يهتم بمظاهر السلطنة، في ربيع الاول »209ه« اقام السلطان المولد النبوي، وكان حافلا، وكان اول احتفال عام يقيمه، ويحضره، جلس بين الامراء، وفجأة اعتراه النعاس، واضطر الامراء الي رش الماء علي وجهه حتي يفيق، في هذه الفترة بدأت الاطماع تتحرك، في جمادي الاول تزايدت الاشاعات بوقوع فتنة كبيرة، وفي مثل هذه الحال تغلق الاسواق تقفر الطرقات، ويقبع الناس خلف جدران بيوتهم ينتظرون نتيجة الصراع، وللمرة الثانية يحضر السلطان المصحف العثماني ويحلف الامراء والجند عليه، ولم تمض عدة ايام حتي تحرك الامير قنصوة، ركب بعساكره، وملك باب السلسلة، ثم جلس وارسل يستدعي امير المؤمنين الخليفة المتوكل، والقضاة الاربعة، وسائر الجند، فلما تكامل المجلس تشاوروا في خلع السلطان الناصر وسلطنة قنصوة، وبالفعل قرروا خلع السلطان تشاوروا في ذلك وكتبوا محضرا، وشهد فيه الكثيرون، وبويع الامير قنصوة بالسلطنة وتلقب بالاشرف ابي النصر، وقبل له الامراء الارض والعسكر قاطبة، ونودي باسمه في القاهرة، وارتفعت له الاصوات بالدعاء، ولم يتبق له إلا ان يركب فرس النوبة، ويلبس الجبة السوداء، والعمامة السلطانية وتحمل علي رأسه القبة والطير، والاهم من ذلك كله صعوده إلي قلعة الجبل، وجلوسه علي سرير الملك، والاستيلاء علي القلعة في العصر المملوكي كان هو الفيصل في الصراع، كان سقوطها يعني استلام السلطة بشكل كامل، ويعكس ذلك مركزية السلطة الشديدة في مصر، ولكن وقعت عجائب، وغرائب، كما يقال:
ستقضي لنا الأيام غير التي غدت
ويحدث من بعد الأمور أمور
كل الأمور مهيأة
أرسل السلطان الجديد بعض الامراء الي القلعة للقبض علي الملك الناصر، ولكن جماعة من مماليك أبيه تعصبوا له، وتصدوا للامراء، وكان علي رأسهم خال السلطان الناصر، ودار القتال في القلعة، واستمر حتي يوم الجمعة مستهل جمادي الاخرة، في هذا اليوم اصاب قنصوه سهم سقط مغشيا عليه، فحمله الغلمان علي اكتافهم، وبقي لباسه بدكته ظاهرا للناس، ورأسه مكشوفة، وهكذا فقد السلطان الجديد هيبته، واختفي في القاهرة، فلما انكسر نزّل مماليك السلطان الغلام، ونهبوا الامراء والخليفة، وخطفوا عمائم القضاة ونوابهم وفي اليوم التالي طلع الخليفة والقضاة الي القلعة، لتهنئة السلطان الغلام بانتصاره، وبايع الخليفة السلطان الغلام مرة ثانية بعد ان كان قد خلع منها، انعم السلطان علي خاله الذي صار صاحب الحل والعقد بالديار المصرية، وصار السعي الأرباب الوظائف من بابه، وبعد عدةأيام ظهر الامير قنصوه مرة اخري، ولكن لم يتحمس الجند للوقوف معه، فاضطر للهرب مرة اخري خارج القاهرة، ولم يمض وقت طويل حتي قتل، غير ان تمرد قنصوه جعل السلطان الغلام مهددا باستمرار، حتي ان بعض المماليك اقترحوا تغيير لقب السلطان، ولقبوه بالملك الاشرف علي لقب أبيه، واحتج بعض الامراء، كيف يكون ذلك وقد خرجت المناشير الي كل البلاد باللقب الاول، ولكن المماليك صمموا، وعند ذلك نودي في القاهرة ان السلطان تغير لقبه، الي الملك الاشرف، فتعجب الناس من ذلك، وصار الخطباء فريقين بعضهم يخطب باسم الملك الناصر، ومنهم من يخطب باسم الملك الاشرف، وقع الاضطراب في كل شيء، وهجم المنسر علي سوق باب اللوق وسوق تحت الربع، وقطع العربان الطرق في الريف، وبرغم اضطراب الاحوال، فإن السلطان الغلام لم يتعظ ولم يثب الي رشده، بعد انتهاء الفتنة اندفع في سلوكياته أكثر قوة، وأشد.
اختار السلطان الغلام عددا من اللصوص، والاوباش، فصاحبهم، ولازمهم وصنعوا له مركبا صغيرة، جعل فيها حلوي وفاكهة وجبن مقلي، وكان ينزل بنفسه في المركب، ويبيع كما يبيع الباعة في بركة الرطلي زمن فيضان النيل، وكان يقلد أصوات الباعة، ويبدو مسرورا بتمثيله دور البائع، ثم يظهر لمن يلعب معهم فجأة القسوة، يذكرهم بأنه السلطان، واذ يري رعبهم منه يضحك، يضحك مسرورا، وفجأة امر بالقبض علي سبعة من أهل الفساد الذين كانوا يلعبون معه، ادخلهم الي الحوش في وسط القلعة، أمر بقيدهم، ثم استدعي المشاعلي »الملكف بإعدام الناس«، وطلب منه ان يعلمه كيف يوسطهم، فراح المشاعلي يعلمه ذلك أمام رفاقه في اللعب، وهو يختلس النظر بين الحين والحين إلي وجوههم مستمتعا برعبهم ثم تقدم منهم، امسك بالسيف، وبدأ بأن قطع ايديهم، ثم قطع آذانهم، ثم قطع ألسنتهم بيده، وكلما علت صرخاتهم، كلما ازداد قسوة، وازداد متعة، وبعد ان وسطهم جميعا، دخل الي قاعة الملك ليدير امور الدولة، لقد رأي الذعر الانساني، واشبع عينيه فرأي الدماء، انه يريد ان يري ذعر الحيوانات، امر بإحضار عدد منها وقطعها بيده، ثم امر بإحضار عدد من الحيات السامة، فقطعت بحضوره، وبعد انتهاء تقطيعها اهدي من قاموا بهذه العملية الخلع والهدايا.
العيد
الامور تضطرب، يجيء الصيف ويشتد الحر، يعز وجود السقايين، يتكالب الناس علي الجمال التي تنقل المياه من النيل حتي انهم تخانقوا بالعصي، يتزايد اذي المماليك، ينزلون الي الاسواق ويعترضون المارة، يخطفون العمائم، وخطف العمائم من الأمور الشائعة، في هذا الزمان لان الناس اعتادوا وضع نقودهم في لفات القماش التي تحيط بالعمامة، إلا من مفتقر تماما، والسلطان كلما تقدم به السن لا يعقل ولا تدركه حكمة، في يوم التاسع والعشرين من شهر رمضان عام 209ه، يأمر السلطان بأن تدق الكوسات في القلعة، يقول لمن حوله »أنا أعمل العيد في الغد من هذا الشهر ان رأوا الهلال أو لم يروا«، فلما اشيع ذلك بين الناس ركب قاضي القضاة الشافعي زين الدين زكريا وطلع الي القلعة، فاجتمع بالسلطان وراح يشرح له ان العيد لا يكون شرعا إلا اذا رئي الهلال، وشق الامر علي السلطان، غضب، كيف لا ينفذ ما ارتأه، كيف لا تتحقق رغباته حتي وإن بدت مخالفة للشرع، للدين، أليست خيوط السلطة كلها في يده، هم بعزل القاضي في ذلك اليوم، في اليوم التالي كان الخميس ولم يظهر الهلال، فجاء العيد يوم الجمعة، وكان السلطان يخشي في اعماقه مجيء العيد يوم الجمعة، بسبب اعتقاد ساد في مصر خلال العصور الوسطي، وحتي الان بين الطبقات الشعبية، وهو انه اذا جاء العيد يوم الجمعة، واقيمت الصلاة فيه مرتين كان ذلك ايذانا بزوال الحاكم عن قريب، جاء العيد يوم الجمعة، ولم يخرج السلطان الي الصلاة، ولم يطلع الاتابكي تمراز الي القلعة، ولا بقية الامراء المقدمين، ولم يكن السلطان في موقعه، انما كان في قاعة البحرة يقضي العيد مع الاوباش واللصوص.
يقول ابن اياس:
»وكان الناصر في تلك الأيام في غاية الطيشان..«
وينتهي عام 209ه، ويعلق ابن اياس:
»وقد خرجت هذه السنة علي ما شرح فيها من الفتن والافكار، والفساد، وخراب البلاد، ووقع فيها الغلاء وتشحطت الغلال، وقتل فيها من الامراء نحو من خمسين اميرا، ما بين مقدمين ألوف وطبلخانات وعشرات، وقد تقدم ذكر ذلك عند وقوع كل حادثة، من اوائل هذه السنة الي اواخرها، حسبما اوردناه من الوقائع، وقتل من الجند والعرب نحو من ألف انسان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..«.
سلطان في الرابعة عشر، مراهق، شاذ، ما من شيء يحول دون رغباته الحسبة، ينزل بين الحين والحين الي تربة ابيه مع أصحابه اللصوص، وفي الليل يأتي بما لم يسمع بمثله، يقول ابن اياس:
»وفيه نزل السلطان وبات في تربة ابيه، وحصل منه تلك الليلة عدة مساويء لا ينبغي شرحها«.
وفي هذه الأيام يجيء الطاعون، ومات من الاطفال والمماليك والعبيد والجواري عدد كبير، واستمر المماليك في اذاهم للسلطان استخفوا به، وجاروا علي الناس بخطف القماش من الدكاكين والبضائع من الاسواق، وصاروا يستخفون بالسلطان والامراء، حتي قيل ان بعض المماليك كان راكبا علي فرس حرون، فصادف جنازة في وجهه، فجفل منها فرس ذلك المملوك، فسقط الي الارض، فخرج خلفه وهاش علي الحمالين الذين يحملون الميت، فهربوا بعد ان القوا الميت علي الارض، فلما هربوا راح يضرب الميت حتي شفي غليله!
كل تفاصيل الحياة تصبح قبيحة، إذا كان الحاكم قبيحا، عرفنا ذلك جيدا في مصر، طوال تاريخها البعيد، والقريب، اما السلطان الغلام فلاه، لا يعبأ، غارق في طيشه، ينزل الي بولاق في مولد سيدي اسماعيل الامبابي، رحمة الله عليه، يعبر النيل في قارب، ومعه بعض أولاد عمه، أوقد حراقة نفط هائلة »صواريخ« وبات هذه الليلة في المركب، ثم تكرر منه ذلك في عدة ليالي اخري، ثم صار يركب بنفسه في كل ليلة بعد العشاء وامامه فانوسين واربعة مشاعل، وعدد من العبيد السود، واذ يري اي انسان في الطريق يناديه، ثم يسأله بصوت هاديء، ويتحاور معه، وفجأة يأمر بامساكه، ثم ينزل من فوق جواده ويقطع اذنيه وانفه بيده، أو يقتله، وهكذا قتل من الناس عدد لا يحصي في مدة بسيطة، وكان اذا مر بدكان ولم ير عليه قنديلا يسمر الدكان، وهو واقف بنفسه عليها حتي تسمر، كان السلطان اثناء مشيه في الاسواق ينظر إلي البيوت، فإذا لمح امرأة جميلة هجم عليها اقتحمه واغتصب المرأة أمام زوجها، وأخيها، في احدي الليالي دخل حارة الروم، هجم علي دار إبراهيم مستوفي ديوان الخواص ليلا وقبض علي ولده ابي البقا واراد قتله، فألقي والده نفسه عليه وافتداه بألف دينار، كان السلطان الطفل -الذي أصبح مراهقا بشعا- قد بلغه ان زوجة ابي البقا جميلة، فهجم عليه بسببها، فأخفوها منه، فجري منه ذلك، مرة اخري سمع عن امرأة جميلة، فاقتحم طاقة بيتها، واغتصبها، وضرب زوجها بالمقارع وسط بيته، وقطع دائرة فرجها بيده، ونظمه في خيط اعده لنظم فروج النساء، في يوم اخر امسك بجارية جميلة، اغلق عليها الباب، ربطها، وفي قسوة بشعة راح يسلخ جلدها، راحت أمه تتشفع لها، ولكنه لم يستجب لطرقاتها فوق الباب، واستمر حتي سلخ الجارية تماما، وحشا جلدها ثيابا، وخرج يظهر لمن بالباب قدرته علي السلخ، راح يصيح:
»ان الجلادين لا يستطيعون ان يفعلوا مثلما فعلت«. ونتوقف عن سرد فظاعاته مع النساء.
ويمضي عام اخر من سنوات العذاب التي عرفتها مصر، ولندع شيخنا ابن اياس يعلق:
»وقد خرجت هذه السنة علي الناس وهم في امر مريب، وقد وقع بها الغلاء والفناء، والمصادرات للناس، وجور السلطان في حق الناس، كما تقدم وأذي المماليك في حق الرعية، وقد صارت الناس في غاية الاضطراب وما كفي هذا كله، حتي فشي في الناس داء يقال له الحب الفرنجي »الزهري« اعاذنا الله منه، وقد اعيا الاطباء امره ولم يظهر هذا بمصر قط سوي في اوائل هذا القرن ومات به من الناس مالا يحصي، انتهي ذلك.
ولكن ايام السلطان المجنون لم تنته بعد..
في غمار الاستمتاع بالسلطة وسكرتها، تبدو الاوضاع مستقرة هادئة، ويخيل للحاكم انه سيقضي بقية عمره يحكم ويفسق، ولن يردعه رادع، وفي مصر كانت تمر فترات يبدو فيها الواقع آسنا، كريها، وما من حركة ايجابية تواجه البغي، وفجأة يتفجر الواقع عن مفاجأة لا تخطر علي بال، ربما يتحرك شخص واحد، يفتدي امته بنفسه، فيجهز علي الطاغية، وهكذا يتبدل الواقع إلي الافضل، وقد يهب الشعب كله الذي ظن القريب والبعيد انه مات، وانه لن يتحرك.
جاءت سنة 409ه والاحوال سيئة للغاية، والمماليك طالبين الشر مع السلطان، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الاول، نزل السلطان من القلعة وتوجه إلي بر الجيزة، لم يصحبه احد من الامراء حتي ولا خاله، نصب هناك خيمة وارسل احضر ابوالخير لاعب خيال الظل المشهور، وجوق مغاني، واقام ثلاثة ايام وهو في ارغد عيش، واثناء عودته مر علي الطالبية، وكان الامير طومان باي الدوادار هناك، خرج الامير وعزم عليه فلم ينزل عنده، فخرج اليه بجفنة فيها لبن فاخر، فوقف السلطان وهو راكب علي فرسه، فقدموا له الجفنة واللبن والمعلقة فمد يده إلي الجفنة وأكل من اللبن، فبينما هو يأكل والامير طومان باي ماسك لجام فرسه، فلم يشعر إلا وقد خرج عليه كمين من الخيام التي هناك نحو من خمسين مملوكا، وهم لابسون آلة السلاح، فاحتاطوا به، وعاجلوه بالحسام قبل الكلام.
وقتل اشر قتلة، مثلوا به كما مثل بالمئات.
وهنا لنصغي إلي شيخنا ابن ياس:
.. وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية نحوا من سنتين وثلاثة اشهر وتسعة عشر يوما، وكانت ايامه كلها فتن وشرور، وحروب قائمة. وما كان الاشرف قايتباي قصده ان يتسلطن ولده خوفا عليه من ذلك.
ويسدل الستار علي فترة حالكة من تاريخ مصر الطويل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.