لم يعد بإمكان المثقف أن يتباهي بامتلاكه هذه الأدوات، صارت مشاعا، يستخدمها الكبار والأطفال قبل أن يتعلموا الكلام! أين تكمن الكارثة إذن؟! كلام في كلام في كلام! هذا ما كنت أحدث به نفسي قبل أن أبدأ الكتابة هنا، كان لدي عشرات الموضوعات» الشيقة» لأكتب عنها، وعشرات، بل مئات الفيديوهات المنتشرة علي مواقع التواصل، وتحتها آلاف التعليقات، بإمكاني أن أخط مجلدات عن واقعة ضرب نائب برلماني وطرده، أو مشاجرة فنانة مع أحد الضباط، أوعما لا ينتهي من سباب علي الهواء في «التوك شو»، أو عن.. أو عن..، أو عن «العنعنة» نفسها، وهي ما يؤرقني بالفعل، إذ طالما تحدثت في هذه المساحة التي أكتب فيها عن الفارق بين «ثقافة النقل»، و»ثقافة العقل»، فمنذ عقدين، علي الأكثر، كنا نستطيع أن نحدد الفارق بين «المثقف» و»غير المثقف»؛ كان المثقف هو الذي يمتلك أدوات المعرفة؛ من كتب، وموسيقي، ولوحات تشكيلية، وأفلام.. إلخ. كان بإمكان المثقف أن يقود جماعة ما، ويمكن أن تسميه: المثقف «الطليعي» أو «العضوي»، الملتحم بالجماهير، صاحب المشروع الثقافي والأخلاقي، كان من الممكن أن تقول باطمئنان: هذا مثقف علي يسار السلطة، هذا مثقف تابع للسلطة، هذه «نخبة»، تبدع وتفكر وتنتج معرفة وحلما بعالم جديد، كنا نستطيع أن نحدد أيضا ثقافة: «العنعنة» (الناقلة عن فلان عن فلان..) ونميزها عن ثقافة «العقل النقدي»، حين يحلل المعطيات ويحدد منطلقاته من إطاره المعرفي، والأخلاقي، نميز بين ثقافة النقل ومعرفتها المتوارثة، وتقديسها الماضي كمثال اكتمل إلي الأبد، برموزه التي تبدو ككائنات فضائية تصلح لجميع العصور، تتحدث «بيقين» لا يأتيه الباطل، وثقافة العقل النقدي تتشبث بالمستقبل، تستخلص ممن سبقوها ما يتسق وعصرها، وتضع التراث بكامله تحت مجهر النقد، تحتفي بنسبية الحقيقة، وأن لا أحد يمتلكها. وكان بإمكاننا أن نميز بين الثقافة (بنوعيها) وبين الجهل والأمية، علي أساس عدم امتلاك الأخيرتين أدوات المعرفة. أعرف أن كلامي هذا ثقيل الظل، لكنك لا يمكنك أن تتحدث عن «كارثة» وأنت «تسخر»، طوال الوقت، فيما يسمي علي مواقع التواصل «الألش»، وأنت تري قطارا يصر أن يسير علي قضيب واحد! المزية التي كانت تميز المثقفين (سواء المعنعنون النقليون، أو العقليون النقديون) صارت في أيدي الجميع، أعني أدوات المعرفة، هل تتخيل مواطنا علي أرض المحروسة لا يمتلك محمولا؟! يدخل من خلاله علي شبكات التواصل؟ لا أظن. علي أية خيمة من «الخوص» تسكنها عائلة لا تملك قوت يومها ستجد كتلة اسمنتية وقد ثبت عليها دش! لم يعد بإمكان المثقف أن يتباهي بامتلاكه هذه الأدوات، صارت مشاعا، يستخدمها الكبار والأطفال قبل أن يتعلموا الكلام! أين تكمن الكارثة إذن؟! في هذا «الامتلاك» ذاته للأسف! لا لشئ إلا لأننا نستخدم ونستهلك هذه الأدوات دون أن ننتج معرفة جديدة بها، تماما كاستهلاكنا للأجهزة الكهربائية، والسيارات والمحمول نفسه.. إلخ. دون أن ننتجها، والكارثة هي في استخدام طرائق المعرفة القديمة ونقلها إلي الأدوات الحديثة دون تغيير، أو بمعني أدق استبدال «مواقع التواصل» بإنتاج «المعرفة»! في ذلك التضليل الذي نعيشه متوهمين أننا نعيش في «قلب» العالم الحديث! المثقف «المعنعن» النقلي الخبير بما قاله الأجداد، يظن أنه مثقف «موسوعي»، يجوب التاريخ رائحا، آتيا، كما يشاء، في مركبته الفضائية! مثل هؤلاء المثقفين «النقليين» يمكن أن تحل محلهم «فلاشة» صغيرة تنقل عليها الكتب التي يحفظونها عن ظهر قلب! يستوي معهم المثقف ذو العقل «النقدي» حين تراه علي الشبكة العنكبوتية، هذه الأيام، هو ذاته الذي يزدري الثقافة «النقلية» يستخدم مُضلِلا أدواتها المعرفية بحذافيرها، حين لا يستخدم عقله «النقدي» علي مواقع «التواصل»، حين يتشبث بفكرة واحدة، يظل يراكم عليها الأسانيد من هنا وهناك، ويشارك الآخرين الفيديوهات، والصفحات، دون أن يتحقق من صحتها، أو مصادرها، حين «يتغابي» ليظل المالك الأوحد للحقيقة! تصبح النتيجة واحدة، عقليين كنا، أو معنعنين، أو أميين، ندفع، معا، يأسا، أو ضلالا، أو تضليلا قطار المعرفة المغروز في هذه الرمال المتحركة، لنتوهم أننا نتحرك به إلي الأمام وهو، للأسف، مجرد «توكتوك»!