تتطلب التحديات والمتغيرات المحلية والعالمية التي طرأت علي مفهوم التنمية أن تتغيَّر النظرة لدور المرأة في المجتمع فلا تنحصر كما كانت ومازالت في إطار الحقوق الإنسانية وهو هام بالطبع، بل اتضحّ أن لدورها آثارا مباشرة وغير مباشرة علي عملية التنمية ذاتها بكل أبعادها. فالمفهوم الحديث للتنمية هو أنها عبارة عن مجموعة من عمليات التغيير المخططة المستمرة تستهدف زيادة الدخل القومي وتحقيق العدالة الاجتماعية في إطار مشاركة شعبية متكاملة هي أهم مقوّماتها الرئيسية. يستدعي هذا الأمر النهوض وتنمية القدرات البشرية حتي يتمكن كل فرد في المجتمع من المشاركة الجادة الفعالة لتحقيق هدف واحد هو إحداث التنمية. ويقاس إنجاز الدولة في هذا المجال بواسطة مقياس محكم يعرف بدليل التنمية البشرية وهو دليل رقمي له عدة مؤشرات أهمها مؤشر التحصيل التعليمي والمؤشر الصحي ومؤشر متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي. ترتب الدول بحسب قيمة هذا الدليل في جداول تحدّث بواسطة البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) كل عام. وللأسف تحتل مصر ترتيباً متأخراً في هذا الجدول لا يليق لا بمكانتها ولا بقدرات شعبها. تحسب قيمة الدليل ومؤشراته بحسب معادلات رياضية تأخذ في الاعتبار متغيرات محددة. فيحسب مؤشر التحصيل التعليمي للدولة بناءً علي متوسط مستوي القراءة والكتابة للبالغين فيها. وبتطبيق ذلك علي مصر نجد أن النساء يشكلن نصف عدد السكان تقريباً وحيث إن الغالبية منهن يعشن في أمية، نجد أن هذا يقلل من قيمة المتوسط المحسوب بدرجة كبيرة (أي علي مؤشر التعليم) وينعكس سلباً علي قيمة دليل التنمية البشرية وبالتالي علي ترتيب مصر بين الدول وهو ما يحدث الآن. علاج هذا لا يتأتي إلا بزيادة الاستثمار في تعليم الإناث والقضاء علي أمية المرأة. يعضِّد هذا تقرير هام للبنك الدولي تشير الدراسة فيه إلي أن الاستثمار في تعليم البنات هو من أكثر الاستثمارات عائداً علي الإطلاق وفوائده قابلة للقياس، إذ يؤثر علي معدلات وفيات الأطفال ومعدلات النمو السكاني ويزيد من إنتاجية المرأة بما يضيف إلي الناتج القومي وأوضحت الدراسة أن السنة الإضافية من التعليم تخفِّض معدلات الخصوبة بما يتراوح بين 5% و10%. كما حسب التقرير ما كان سيئول إليه الحال لو كان في إمكان الدول النامية مضاعفة أعداد البنات المقيدات في المرحلة الثانوية، يقول التقرير لو تم هذا لانخفض عدد وفيات الأطفال إلي النصف ولانخفض عدد المواليد بنسبة 29% بعد عشر سنوات. وهذا أقوي عشر مرات من مضاعفة عدد أطباء الرعاية الصحية وأقوي سبع مرات من مضاعفة الدخل القومي. والمؤشر الثاني الذي يعكس الأوضاع الصحية في الدولة يبني علي العمر المتوقع عند الميلاد اي المستوي الصحي للاطفال وهو بالطبع ما يعتمد بالدرجة الأولي علي صحة الأم ولذلك فإن توفير الرعاية الصحية للمرأة منذ طفولتها ومروراً بفترة الإنجاب له أكبر الأثر علي قيمة هذا المؤشر وينعكس عليها بالإيجاب وبالتالي ترتفع قيمة دليل التنمية البشرية لمصر كدولة ويتحسن ترتيبها بين الدول. والمؤشر الثالث هو متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي ويحسب ببساطة بقسمة الناتج الإجمالي علي عدد السكان، أي يقسم في مصر علي 90 مليون نسمة تقريباً. فإذا كانت غالبية النساء أي غالبية نصف عدد السكان تقريباً غير قادرات علي الإنتاج فإن هذا سيؤثر سلباً علي متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي. إذا أخذنا كل تلك المؤشرات في الاعتبار ألا يستدعي الأمر تغيير النظرة إلي قضايا المرأة واعتبارها قضايا إنمائية وأن التصدي لها من أهم عوامل التغيير الجذرية التي لها أكبر الأثر علي معدلات الأداء الاقتصادي والاجتماعي لمصر ككل ؟ يستدعي هذا الأمر إعادة النظر في نظم التخطيط ووضع الاستراتيجيات بما يؤدي إلي تمكين المرأة من الدخول في السياق الرئيسي للتنمية وتعميق مفهوم المشاركة بين المرأة والرجل الذي يتضمن خلق أسلوب يحقق هذه المشاركة كل بحسب ظروفه وقدراته واختياراته آخذين في الاعتبار أن العلاقة السليمة بين الجنسين تبني علي مفهوم التكافؤ بمعني أن الجميع متساوون فالمرأة لها حقوق وعليها واجبات والرجل له حقوق وعليه واجبات وهما في هذا متساويان وإن اختلفت هذه الحقوق والواجبات ... وإذا كان مبدأ المساواة في مصر موجودا وأصيلا في الدستور إلا أنه مازالت هناك حواجز مجتمعية تحول دون ممارسة هذه المساواة بالصورة المفروضة أدَّت إلي تفاوتات نوعية بين الذكور والإناث ومظاهرها واضحة. إن استمرار التفاوتات بين الذكور والإناث يحمل في طياته تخلفا حضاريا يتسبب في تعثر جهود التنمية بصفة عامة ولذلك فإن تقليص هذه التفاوتات يجب أن يكون هدفا قوميا علي الدولة العمل علي تحقيقه من خلال سياسات إنمائية رشيدة.