الإنكار حيلة نفسية دفاعية تجاه موقف مؤلم، فحين يواجه بعضنا مصيبة -لا قدر الله- يحاول - دون وعي غالبا- رفض الاعتراف بحدوثها أصلا، الأطباء النفسيون يمكنهم معالجة المريض ليعترف ويواجه الألم، يشتبك الإنكار، بهذا المعني، مع «التدليس»، التدليس هو إنكارك لحدوث موقف تراه أمامك وبعينيك، اللتين سيأكلهما الدود، بعد عمر طويل إن شاء الله، لتكسب رضاء من يدفعون لك ثمنا لإنكارك وتدليسك، وللأسف فإن التدليس لا علاج طبيا له، ولا بلجنة الأخلاق المزمع إنشاؤها! علي طريقة فيلم فؤاد المهندس «أرض النفاق»، فلم يخترع العلم بعد «حبوبا» لمنع التدليس، لذا فإن علينا أن نحتمل تدليس الإعلام المصري دون وقاية، إلا من رحم ربي، ففي يوم الجمعة 12/2 شهدت «دار الحكمة» حشدا -غير مسبوق- لعمومية أطباء مصر، لكنك حين تبحث عن هذا الحشد علي الفضائيات لن تجد إلا صورة ساكنة للمكان، لا تحتاج إلي إضافة جملة «لم يحضر أحد»! إذا كنت كسولا ستقلب في القنوات لتحملك أمواج «التدليس»، إلي قناة ابتدعت «التدليس» وهي «الجزيرة» فتري الفراغ وقد امتلأ حشودا، ورغم أنك تلعن القناة ليل نهار- ستشاهدها، لأنها الوحيدة، علي خلاف إعلامنا في مجمله، التي تريك الوجه الآخر للحشود، وتؤجج نارها كلما أمكن، وإذا لم تكن كسولا ستنتقل بنفسك إلي المكان لتري بعينيك الحقيقة، دون انتقاص، ودون مبالغة، ليزيد الحشد شخصا، وربما يتبعه آخرون! التدليس الإنكاري كفعل مدفوع الأجر له إرث قريب لدي المصريين، بدءا من ضحكات المدلسين، اللزجة، علي «الإفيه» الشهير: «خليهم يتسلوا» وليس انتهاء ب»رد عليه انت يا حسين»! ولا يشتبك التدليس مع الإنكار في وقائع بعينها، وإنما يتجاوزها ليصبح منظومة «لا أخلاقية» بكاملها، تتكاثر كالفطريات أو كدرقة سلحفاة، صلبة، وباطنها هش ضعيف، يخفي رأسه إذا ما تعرض للمس، فمن فنون «التدليس» مثلا، أن تتحول كلمة «الاعتداء» من طرف علي طرف آخر، إلي «مشاجرة»، وأن تلوك الفضائيات عيوب المعتَدي عليه حتي تشحن الناس ضده، فيتناسوا أنه ضحية في موقف بعينه، وينقلب إلي «جلاد»، أي أنك تنكر وتدلس علي الواقعة ثم تحشرها في سياق آخر! هذا ما حدث في واقعة اعتداء أمناء الشرطة علي الأطباء، حين توهتنا «غلوشة» التدليس بعيدا عن الواقعة بالتركيز علي إهمال الأطباء! وهو ما يسميه العرب القدامي «تفريق الدم بين القبائل»، وما يترجمه المثل الشعبي «لا تعايرني ولا أعايرك...»! من فنون التدليس أيضا أن تُدخل موقف الخصم، المعارض لمن يدفعون لك، في منظومة هلامية محاطة بالشكوك والكراهية، قد تكون الآلية سهلة بأن تقول إن الطبيب إخواني، كما قيل، ثم تركب علي هذه المقولة انه قال لأمين الشرطة: انت كافر، فتنتفخ أوداج (كما يقول العرب) المشاهدين، غضبا يشعله العداء الشعبي للإرهاب، وما يفعله بجنودنا وضباطنا- جيشا وشرطة- لتفتح الباب أمام تدفق الكراهية وتبادلها عبر المداخلات الهاتفية، قد تكون الآلية أكثر صعوبة حين تُواجه بأن من يدعو لعمومية الأطباء، واحدة من أشرف من أنجبت المحروسة، وهي د.مني مينا، التي لا يعرفها إلا من رحموا هذا البلد من «خليهم يتسلوا» أعني من كانوا يشاهدونها وهي تخوض في الدماء، وقنابل الغاز، لتنقذ مصابا من رصاص مبارك، في الأيام التي يصفها «المدلسون»، ب»25 خساير»، ولأنهم لا يعرفونها، لأنهم كانوا كامنين في بيوتهم أيامها - يرتجفون هلعا- ولأنها «قبطية»، لم يكن ممكنا إلصاق تهمة الأخونة بها، لكن هذا لم يقف في طريق المدلسين، فسرعان ما أضافوا عبارة مبهمة :»ذات ميول إخوانية»! ليسري التعريف العجائبي في الفضائيات، حاملا علي جناحيه معجما جديدا من التدليس: «عايزة تلعب دور»، «تسييس القضية»! ولأنني أنتمي إلي جماعة «خليهم يتسلوا»، كما تنتمي مني مينا، وكثيرون، أود أن أنبه «المدلسين»، إلي أننا نخاف علي هذا البلد، وأنهم يدفعون الناس دفعا بتدليسهم، وبالاستخفاف بعقولهم، إلي أن «يتسلوا».. «في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد»!