اعتدنا أن نحتفل سنوياً بتبادل الحلوي وعروسة المولد وغيرها من وسائل البهجة في ذكري المولد النبوي الشريف، ولكن يجب ألا يقف الاحتفال والاحتفاء بنبينا - عليه الصلاة والسلام - عند هذا الحد، بل يمتد لنتأسي به في مسلكه مع الناس، كل الناس، من آمن بدعوته ورسالته ومن لم يؤمن، وفي ذلك نجد ما يجب أن نتوقف عنده بإجلال وإكبار إنساني، قبل أن يكون إكباراً وإيماناً دينياً. حين دخل رسول الله مكةالمكرمة، فاتحاً ومنتصراً، كان حق الفتح وحق الانتصار يخول له أن ينكل بخصومه، خاصة وسبق لهم إيذاؤه هو من معه، وكانت دوافع المنتصر في أن يرد اعتبار أصحابه من خصومهم الذين أخرجوهم من ديارهم تسمح له ولأصحابه باتخاذ أي إجراء انتقامي، وما كانوا ليلاموا علي ذلك، والأهم من هذا أن أولئك الذين انتصر عليهم، كانوا لايزالون علي شركهم، ولم يكونوا اعترفوا به بعد نبياً ورسولاً ولا آمنوا برسالته، كانوا من وجهة النظر الإسلامية بين كافر ومشرك، وكان أن جمعهم وطرح عليهم السؤال الكبير " ما تظنون أني فاعل بكم ؟ "، ردوا عليه "خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم "، الرد واضح أنهم يخاطبون فيه الأخوة وطابع أبناء البلد الواحد، تحدثوا عنه وعن والده، ولكن لم يشيروا إلي نبوته ورسالته ولا إلي ديانته الجديدة، ولم يذكروا أنهم راجعوا أنفسهم في هذا الشأن أو أنهم يفكرون في المراجعة، ومع ذلك رد عليهم بمقولته الشهيرة " اذهبوا فأنتم الطلقاء". هذا نبي الإسلام يواجه "كفار" مكة، وهو المنتصر ويملك جيشاً قوياً، وهم المهزومون، الضعفاء وليست لديهم أي قوة عسكرية أو قتالية، ومع ذلك تركهم وشأنهم، لم يحاسبهم حتي علي ما سبق، كما لم يحاسبهم علي موقفهم الديني والعقائدي؛ ولا حاول أن يساومهم علي عقيدتهم أو يطالبهم بالتحول عن موقفهم الديني. هذا هو موقف رسول الله وهو في لحظة الانتصار الساحق علي خصومه وأعدائه، وقد يقول البعض إن نفسية القوي والمنتصر تختلف، لكن رسول الله مر بمواقف كثيرة، من قبل، ولم يكن منتصراً، ونعرف حادث الطائف حين دفع خصومه صبيانهم يرمونه بالطوب والحجارة حتي أدموا قدميه، وجاءه ملك من السماء يطلب أن يأذن له بأن يطبق عليهم الأخشبين، أي الجبلين الكبيرين ويبيدهم جميعاً، لكن رسول الله أبي تماماً، وتمني لهم الهداية، إلي هذا الحد كان عظيماً ومتسامحاً، حتي في أشد اللحظات والمواقف قسوة من خصومه. مرة أخري هؤلاء الذين رفض صلي الله عليه وسلم الانتقام منهم أو تعذيبهم كانوا بين كافر أو مشرك، ولم يتعاملوا معه بروح ديمقراطية، أي لم يحتملوا دعوته ورفضوها، ثم امتد الأمر إلي إيذائه بدنياً ومع ذلك لم يحمل لهم ضغينة ورفض أن يرد الإيذاء. ويمكن أن نرصد علي هذا النحو عشرات ومئات المواقف من سيرته صلي الله عليه وسلم تخاطب الإنسان فينا، قبل أن تخاطب المسلم، وهي تكشف عن عظمة وسمو إنساني وأخلاقي، لإنسان عظيم يستشعر معاني الإنسانية وقيمة الإنسان، مطلق الإنسان، قبل أن يكون مؤمناً ومسلماً، هذه المواقف تدعونا إنسانياً إلي احترام المغاير لنا، حتي لو كان مشركاً أو كافراً، فحسابه أمام الله سبحانه وتعالي، خالق الخلق ومالك الملك، الذي لو أراد لنا أن نكون أمة واحدة لكنا، ولكنه خلقنا شعوباً وقبائل، لنتعارف ونتعايش، وهو بعث رسوله هادياً ومبشراً ونذيراً، ولم يجعله جباراً منتقماً. فما بال أولئك الذين يزعمون أنهم أمناء علي دين الله ويحبون رسول الله، يشيعون القتل والترويع في الناس، عموم الناس، المسلم منهم، قبل غير المسلم.. والمؤمن قبل غير المؤمن.. من أين جاءوا بتلك الأفكار وكيف ينسبون أنفسهم إلي نبي الله؟! رأينا علي الشاشات جميعاً كيف تم إحراق الطيار الأردني "معاذ الكساسبة"، وهو مسلم، وشاهدنا إعدام 21 مصرياً وهم من الأقباط، أصهار رسول الله صلي الله عليه وسلم، والذين أوصي بهم خيراً، وتابعنا، ذلك الذي كان يقذف المواطنين في الإسكندرية من علٍ لتهشم رؤوسهم وتكسر عظامهم، تم هذا من قتلة، إرهابيين، يدعون ويزعمون أنهم الأكثر التزاماً بدين الله والأقرب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، والحق أنهم الأبعد تماماً.