سيظل يوم الجمعة الحادي عشر من فبراير ماثلاً في ذاكرة الإنسانية عامة، وفي ذاكرة المصريين خاصة، منذ الصباح الباكر لم يعد في ميدان التحرير موطئ لقدم، مشهد مهيب، فيه قدر من القداسة، حشد نادر لم يحدث من قبل، يشبه الحشود الكبري للمؤمنين الذين يحجون إلي الأماكن المقدسة، لكن هؤلاء لم يجيئوا لتأدية طقس ديني، إنما قدموا من أجل الحرية، العدل، حياة إنسانية أفضل، ضد الفساد، ضد الدكتاتورية، منذ بدء الثورة في الخامس والعشرين من يناير وميدان التحرير تحول من مجرد مكان إلي رمز، إلي بؤرة الثورة، توافد إليه المصريون، ليس من جموع الشباب فقط، إنما من جميع أنحاء مصر، من قري قصية في الصعيد، من مدن علي أطراف الصحراء، من مصر السفلي، من مصر العليا، جاء كل منهم وهو لا يعرف إن كان سيلاقي أهله مرة أخري أم لا؟، بعضهم جاء لا يملك من زاد الدنيا شيئاً، لكنه حمل معه ما استطاع أن يدبره من طعام لمن لا يعرفهم، لكم توافد علي الميدان مواطنون يحملون سلالاً من الخبز، طعام، لم تكن هناك جهة لاستلامه، كانوا يضعون ما حملوه في الميدان ويولون ظهورهم إلي حيث سيجلسون ويعتصمون، عندئذ يجيء من يوزع قليل الزاد علي الثوار، رأيت اثنين يقتسمان بيضة، لم ينشأ زحام علي أي شيء، كان التدافع علي إيجاد مكان للقدمين، عرفت أسراً ميسورة اشتري أفرادها الأغطية والبطاطين ليرسلوها إلي من لا يعرفون، إلي الثوار لكي يتدفأوا في العراء، خلال الثورة عرفت مصر أياماً من أبرد ما مر بها في هذا الشتاء، وتساقطت أمطار غزيرة القطر، لكن الناس الذين تحركوا، انتفضوا من أجل الحرية، تدفأوا بأرواحهم، بإصرارهم، نقول الناس في اللغة غير أننا لا نعرف معني اللفظ إلا عندما نري تجسده في جموع حاشدة تجييء من كل حدب وصوب، لم يكن الشباب فقط، إنما الذين بلغوا من العمر مراحل متقدمة، جاءوا بخطاهم المتمهلة يتوكأون علي عصيهم، أما المشهد الذي لم أعرف له مثيلاً في تاريخ الثورات، فهو الآباء والأمهات الذين حملوا علي أكتافهم وصدورهم أطفالهم الرُضع، رمزية المشهد وتجسده علي أرض الواقع تذهلني وتؤثر فيّ، قرأت تفاصيل الثورات التي قام بها المصريون خلال تاريخهم ولم أعرف مثل هذا، أسر بأكملها جاءت إلي التحرير، أب وأم وأطفالهما ليعتصموا وتمر عليهم الأيام والليالي وصولاً إلي هذا اليوم المهيب، الجمعة، طوال التظاهرات التي عرفتها مباشرة أو التي قرأت عنها، كان الشباب والرجال هم عمادها، عرفت مصر ثورات النساء وخروجهن في مظاهرات خلال ثورة 9191 التي اندلعت ضد الاحتلال الانجليزي، نساء مصر خرجن من الحواري والأزقة في القاهرة القديمة، من مدرسة السنية للبنات التي أنشئت في القرن التاسع عشر، نظمن مظاهرات خلعن خلالها الحجاب، واجهن جنود الاحتلال الانجليزي بشجاعة، وتكرر ذلك في ثورات مصر، وكان آخرها مظاهرات الطلبة في السبعينيات والتي كانت موجهة ضد الرئيس السادات وسياساته وخلالها تمركزوا أيضاً في ميدان التحرير، الميدان الذي يعد في القاهرة مركزها السياسي نظراً لوجود مؤسسات الدولة حوله، كما أنه الأفسح مساحة، أنشأه الخديو اسماعيل في القرن التاسع عشر علي غرار ميدان النجمة شارل ديجول الآن في باريس. عرفت مصر خروج النساء في مظاهرات، حتي في العصر المملوكي، لكن أن تخرج أسر بأكملها بما فيها أطفالها الصغار الرضع فهذا ما لا أعرفه من قبل، غير أنني تذكرت مشهد الروح الأسرية في المشاهد الموجودة بداخل المتحف المصري الذي تعرض للأسف إلي بعض الدمار، نلاحظ في الفن المصري القديم حرص الفنان علي تصوير الأسرة، الأب والأم وبينهما الابن أو الابنة، تلك اللمسة الحانية من يد الرجل أو المرأة علي كتف قرينها أو قرينته، ومشاهد الملك اخناتون في تل العمارنة كلها أسرية، الإحساس بالأسرة المصرية عميق، متأصل في الشعب المصري، وفي القاهرة القديمة لكم لاحظت بعض المشاهد التي تشبه لوحات وتماثيل الفن القديم، بائع متجول يحمل طفله بينما يدفع عربته أمامه، سائق عربة عامة يضع صورة ابنه أمامه، ومن العبارات التي رصدها العالم الاجتماعي سيد عويس والمكتوبة علي عربات النقل وسيارات الأجرة، وتلك ظاهرة مصرية حميمة، عبارات كثيرة تعبر عن التعلق بالأسرة، ودعوات بحفظ الأبناء الذين يذكرون الآن بالأمس، لذلك كان من أفدح المشاعر التي أصابت المصريين بعد بدء سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في زمن السادات وتوحشت في عصر مبارك الذي تحول فيه نظام الحكم إلي تشكيل يشبه »المافيا«، هو تفرق شمل الأسر المصرية، باضطرار الآباء والأبناء إلي الخروج للعمل في البلاد العربية، واضطر آلاف الشباب إلي ركوب قوارب الموت سعياً للوصول إلي الشاطئ الآخر من المتوسط، مازلت أذكر دخولي إلي قرية في أعماق الصعيد منذ سنوات، كان الوقت عصراً وكنت أقصد أسرة فقيرة أحمل لها مساعدة من الجريدة التي أعمل بها الأخبار فوجئت أن معظم القرية من النساء، والرجال المعمرين، معظم الأزواج سافروا إلي الخارج، هذا وضع لم تعرف له مصر مثيلاً في مختلف عصورها، ارتباط المصري بأسرته الصغيرة، إلي الأسرة الأكبر، الوطن، الإنسانية، في الدولة القديمة قام الفرعون بنفي أحد رجال القصر واسمه سنوحي إلي جزيرة في البحر المتوسط ربما كانت كريت، أمضي سنوات صعبة في المنفي، وكان أشد ما يؤلمه أن يموت ويدفن في أرض غريبة، راح يرسل خطابات إلي الفرعون تعتبر من أبلغ الرسائل في الحنين وتعبيراً عن فداحة الغربة، وتعد من أقدم نصوص الأدب الإنساني، ظن كثيرون أن الظروف الاقتصادية القاسية، وفساد النظام خلال العقود الأخيرة قد نالت من الشعب المصري، ولكن جاءت الثورة لتؤكد أن الجوهر سليم، وأن ما كان المصريون ينتظرونه الشرارة الموقدة، لقد طال صمتهم وكنت دائماً أنبه إلي خصوصية حركة المصريين، وأن الجميع يجب ألا ينخدعوا بهذا الصمت أو السكوت عن هذه المفاسد، وتلك المظالم، كنت أرقب مرور الوقت وأخشي مفارقة الحياة وهذا الوضع مستمر علي ما هو عليه، لقد عصفت بجيلي ظروف كثيرة خلال الستين عاماً الأخيرة عرفنا خلالها السييء ثم الأسوأ، سواء في عصر جمال عبدالناصر حيث انتفت الحريات، أو السادات الذي زرع أصول الفساد، لكن الوضع في العقود الأخيرة فاق كل خيال، ساعد علي ذلك طول بقائه في الحكم، وذكاء خبيث في التعامل مع المصريين، وأيضاً وحشية ضارية، لقد تحولت أجهزة الدولة إلي خدمة المافيا خاصة الشرطة التي ارتدي بعض أفرادها في تشكيلات خاصة الملابس المدنية للاعتداء علي المتظاهرين أو المحتجين، وجدت عملية اغتيالات غامضة وضرب للمعارضين في الطرق النائية، واختطاف بعضهم مثل الدكتور عبدالوهاب المسيري وإلقائه في الصحراء، رغم مرضه، كان النظام متوحشاً، دموياً تجاه المعارضين، خاصة عندما تصل الأمور إلي المساس بالدائرة العائلية التي تخص الرئيس، لقد طال صمت المصريين، ولكن عناصر تكوينهم وخصائصهم في العمق، في الجوهر تحركت يوم الخامس والعشرين من يناير وبلغت الذروة في يوم الجمعة المقدسة التي تحول فيها المصريون إلي واحد، إنه الكل في واحد، تماماً كما عبرت النصوص المصرية القديمة عن فناء الفرد المحدود في الكون اللامحدود. إنها الجمعة، الحادي عشر من فبراير، يضيق الميدان بالوافدين، كل أطياف المصريين، الرجال والنساء والأطفال جاءوا من كل فج، المحجبة بجوار السافرة، المسلم إلي جانب المسيحي، أثناء صلاة المسيحيين كان المسلمون يقفون لحراستهم، والعكس، توارت تماماً أحداث الفتنة الطائفية التي اتضح من دلائل عديدة أن النظام كان يؤججها ليبقي في السلطة، ثمانية عشر يوماً من الاعتصام المستمر، لم يجر خلالها تحرش بأنثي، ولم تمتد يد لتسرق شيئاً صغيراً أو كبيراً، لم يتحطم لوح زجاجي، وعندما كان بعض المندسين ينادون بالعنف، كانت هتافات الناس تعلو »سلمية.. سلمية«، اختفت التوترات الاجتماعية بين المصريين التي كانت سائدة بينهم من قبل أحداث الثورة، كان المجتمع يعاني مناخاً طارداً للبشر، واكتئاباً جماعياً، كانت المشاجرات تنشب لأقل الأسباب، في ميدان التحرير بعد الثورة تغير المناخ النفسي للمصريين، مئات الأطباء تنافسوا في الحضور، أقاموا مستشفيات ميدانية في مداخل محطة مترو الأنفاق، وفي بعض الفراغات بين المباني، قاموا بتنظيم أنفسهم في مجموعات ونوبات زمنية، بعضهم لم تكن له علاقة بالسياسة قبل الثورة، انخرطوا تماماً، ليس في أداء واجبهم المهني والإنساني فقط، إنما في المظاهرات، والتصدي لبلطجية النظام والمجرمين وأصحاب السوابق الذين أطلقهم وزير الداخلية السابق عمداً من السجون لترويع المصريين علي مستوي المجتمع كله عامة، وضرب تجمعات الثوار في مصر، خاصة ميدان التحرير، سيظل انسحاب الشرطة فجأة من النقاط السواء في تاريخ مصر ولن أنس الليلة الأولي التي اختفت فيها الشرطة عمداً بتعليمات منظمة، وترك مصر كلها للمجرمين والسجناء المطلوقين، وتوالت استغاثات القوم عبر الإذاعة والتليفزيون، في تلك الليلة نزلت إلي الشارع مع سكان العمارة، كل يحمل ما تيسر له، عصا، سكين مطبخ، القلائل أتيح لهم سلاح خفيف، وكان المجرمون يحملون السلام الأبيض والناري، وتعرضت منطقة الزهراء القريبة من إقامتي لعملية نهب واسعة، ستظل هذه الليلة وما تلاها من الليالي الغريبة، المخيفة في تجارب الشعوب، أسفر النظام عن طبيعته بشكل مباشر، بعد أن كان يمارسها بشكل غير مباشر، في التحرير كان المصريون بأطفالهم ونسائهم وعجائزهم يجسدون أشواق الحياة إلي الأفضل، وعلي حدود الميدان كان البلطجية والمساجين والمجرمون، طوال العقود الماضية كان النظام يخلق فئة جديدة لنهب البلد وثرواته، بعض من رجال الأعمال فتحت لهم خزائن البنوك، ومنحت لهم الأراضي بملايين الأمتار، حتي إن بعضهم امتلك مطارات خاصة، هؤلاء مولوا الهجمات المنظمة وإطلاق المساجين المجرمين علي الشعب، وسقط نتيجة لذلك مئات الضحايا، وللأسف فإن النظام برموزه مازال قائماً حتي الآن. صحيح أن رأسه سقط، وبعض من رجاله، لكن النظام مازال قائماً، وتغييره مازال في حاجة إلي رؤية أشمل وحركة أسرع، إن توحد المصريين، انبعاثهم الروحي يمكن أن يكون منطلقاً لعصر جديد، لروح جديدة في جميع المجالات، الثقافية والاقتصادية والسياسية، تماماً كما جري ذلك بعد ثورة 9191، لكن استثمار نتائج الثورة يحتاج إلي إطار، إلي نظام مغاير، إلي وجوه جديدة، ومازال هذا في مرحلة المخاض العسير. صباح الجمعة الحادي عشر من فبراير اكتملت حركة المصريين، أصبحت مصر كلها ميداناً للتحرير، تحققت الحركة الخاصة، الثورة عندما لا يتوقع أحد ثورة القوم، التحرك عندما يتصور الجميع أن النفوس قد ضعفت، وهذا حال مصري دقيق لا يعرفه إلا من استوعب الثقافة الخاصة للمصريين والنابعة من تكوينهم الحضاري الذي بدون معرفته لا يمكن فهم ما جري، بعض أجهزة المخابرات العالمية وجه إليها النقد لأنها لم تتنبأ بما حدث، بدون فهم ثقافة المصريين الكامنة التي تعمل علي مهل، بتأن، لا يمكن التنبؤ بما ستصير إليه الأحوال، بدون قراءة وتأمل كتاب »الخروج إلي النهار« الذي كانت توضع نصوصه مع الراحلين إلي الأبدية، بدون فهم الرؤية المصرية إلي الكون والتي عبرت عنها النصوص القديمة، والأغاني الشعبية، والأمثال الشعبية، لنتأمل هذا المثل البليغ: »اصبر علي جار السو.. لتجيله مصيبة، يا يرحل« بدون قراءة مصادر التاريخ المصري، خاصة في العصر المملوكي، المقريزي وابن اياس وابن تغري بردي، ثم الجبرتي في العصر العثماني وزمن الاحتلال الفرنسي، بدون قراءة شكاوي المصري الفصيح، وعودة الروح لتوفيق الحكيم، وأعمال نجيب محفوظ، وعيون الأدب المصري الحديث، والإبداع المصري الصميم في جميع مجالاته، بدون فهم واستيعاب هذا القول القديم، المتجدد »الكل في واحد« لا يمكن فهم الثورة المصرية الأخيرة ولا استنتاج ما سيليها. من الأمور التي تستوقف النظر، موقف الجيش، لقد دفع النظام بالقوات المسلحة متصوراً أنها قوة قمع، ولو أن قادة النظام اطلعوا علي تاريخ الجيش المصري لما اتخذوا القرار بنزول القوات إلي الشارع، منذ تأسيس الجيش المصري الحديث في عهد محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة لم يقم الجيش المصري بأي عملية قمع ضد شعبه، وفي الأوقات الحرجة يتصدر الجيش المشهد، مثل وقفة أحمد عرابي في ميدان عابدين مواجهاً الخديو، والتي يوازيها وقفة المشير محمد حسين طنطاوي ورفاقه في مواجهة رأس النظام في اللحظة الحرجة التي بدا خلالها شبح الانهيار وتفكك الدولة، الرئيس لم يتخل، لكنه أُرغم، ولو أن الرئيس قرأ تاريخ الجيش الذي حارب في صفوفه، وكان من رموزه لأدرك النتيجة، عندما نزل الجيش إلي الشارع قوبل من الجموع بالورود والترحيب، ورأيا مشاهد مؤثرة ستظل في الذاكرة الوطنية، المصريون يركبون الدبابات، والجنود يتقاسمون طعامهم مع المعتصمين، والعربات المدرعة كُتب عليها »يسقط مبارك«، ولعلها المرة الأولي في العالم التي ينزل فيها جيش دولة في مهمة لقمع الثورة، وإذا بآلياته تحمل شعارات الثورة، لم يحدث أن فرداً من القوات المسلحة دفع مواطناً بيده، كان التفاهم سائداً، والود قائماً، لقد أصبح الجيش جزءاً من الشعب الثائر، وتحقق بذلك القول الحكيم القديم »الكل في واحد«، كان أشد ما أخشاه أن يقع حادث ولو بالخطأ لكن لم يحدث ذلك، وكان تدخل قادة الجيش حاسماً، فأنقذوا أرواحاً بلا حصر من بني وطنهم، وجنبوا البلاد أنهاراً من الدم، علي امتداد ذلك اليوم »الجمعة« أصبح الكل في واحد، وبدون استيعاب هذا المعني وخلفيته الثقافية فلن ندرك الأبعاد العميقة لما جري.