ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها..إن السفينة لا تجري علي اليبس، إنها نفس المفارقة لاتزال تحكم أفكارنا وسلوكنا حتي مع مستجدات حياتنا في مثل هذه اللحظة الفارقة في تاريخنا المعاصر. لقد خرج من بيننا شبان يملأون عين الشمس ويصنعون النهار ويعيدون كتابة التاريخ ورسم ملامح الوطن الناهض، ولم نفهم ولم نتعلم وظللنا في غينا وتغابينا نحاصرهم بأسئلة البلادة والإعادة والانتهاز والتنطع والانحسار. كانوا علي مستوي اللحظة وكان الجميع مفارقين لها منقطعين عن ضروراتها واستحقاقها، فلا غرو أن قاربنا أن تضيع منا اللحظة ولا نمسك معها بأفق جديد يخاطب المستقبل ويؤمن مطالبه واحتياجاته. هو جيل جديد لم تعرفه مؤسساتنا وحكوماتنا البليدة المتعاقبة، ظنوه جيلاً بلا أفق ولا انتماء أوهوية، لم يقتربوا منه أو يتفهموا أفكاره وأحلامه وأمانيه، حسبوه جيلاً ضائعاً تأخذه السكرة ولا يعيش إلا اللحظة، فحاصروه بالتفاهة والسذاجة والتهميش والقهر والإقصاء وسوء التقدير، لم يجد الرعاية والإهتمام من مؤسسات التعليم ولا الثقافة والشباب والأحزاب والإعلام، فاغترب وأسقطهم جميعاً من حساباته، ولم ينسحب أو يتقوقع ولم ينكفئ علي نفسه بل أمعن التفكير والتدبير والعزم واجتهد وإذا به يفاجئهم بالغضب والانتفاض والثورة ويفرض التغيير ويؤذن لفجر جديد. وبدلاً من الإمساك بتلابيب اللحظة واستعادة الوعي المفقود والتسليم بأهمية وروعة ما تحقق علي الأرض بفضل هذا الشباب المبدع الناهض، فإذا بمن يحاولون الانتهاز والالتفاف ومحاصرة الحلم واختطاف الفرحة، فأدخلوه في دهاليز السياسة والمفروض والواجب والممكن والمحتمل وشاغلوه دهاقنة النخبة وكهنوت السلطة ومحترفو بطء الفهم والاستيعاب والحركة، فاستعصي علي الجميع واستمسك بميدان التحرير رمزاً لأرض هي كل ما تبقي له من وطن نهبه الفاسدون وتلاعبوا بمصائره ومقدراته. لا تلوموا الشباب ولا تحاصروه بالقديم الذي خرج عليه رافضاً لكل شروطه ورموزه وقوانينه وأكاذيبه وتجاربه وانحيازاته. هو يخاطب المستقبل ويناشدكم العدل والإخاء والمساواة والخيال والتقدم والكرامة والنهضة، هو يحترم العلم ويتقدم من خلال طرائقه ومعطياته وأنتم لاتزالون تراوحون أماكنكم تتمترسون خلف وصاية مقيتة وتعيدون نفس خطاب التشكيك والتخوين وأسئلة الإدانة والإهانة، وتنسون أنه خرج أول ماخرج طلباً للكرامة بعد أن أغلقت أمامه كل السبل، وبعد التزوير الفج الفاجر للانتخابات ومغامرات أباطرة الاحتكار وتوحش الرأسمالية وأغبياء السياسة الذين راحوا يدبجون المقالات ويطلقون أكاذيب التصريحات تكريساً للاستهتار بعقله وتسفيه أفكاره والاستهزاء بقدرته علي الرصد والفهم والاستيعاب والتقدير والمعرفة. وهنا فاض الكيل ورأي أن التغيير لا يأتي بالدستور والقانون الوضعي والأوضاع الاحتكارية الجائرة الظالمة، ونخبة مستفيدة متواطئة فهب يصنع التغيير ويفرضه بالثورة، فتفهموا وحاولوا وتعلموا وراجعوا واستقيموا مرة لله والمستقبل والوطن. إن من يتصور من فلول الإنتهازية وبقايا المتربحين من ممالقة السلطة أن بإمكانه إعادة إنتاج ذلك النسق الرخيص البالي من الخرافات والنفاق وتلوين الحقائق والالتفاف علي الواقع بخطاب التبرير والتزيين وأزهي عصور الديمقراطية وإنجازات حكومة نظيف الوهمية ومحاولات التشكيك في نقاء ووطنية الشباب الثائر المناهض والطعن في شرفه، فإنما يضر الدولة ويسئ للسلطة ويحاول اغتيال مستقبل هو ملك للجميع، وأحذركم أن عمر سليمان الذي عاش في الظل سنوات طويلة يخدم الوطن لا تبهره الأضواء ولايحترم إلا الرجال الأقوياء الأكفاء، ولن تنطلي عليه هذه الترهات والمحاولات الرخيصة للتقرب والتزلف والنفاق. وهو إن فعل أو استجاب لغواية المتلاعبين بالعقول والمزورين للحقائق فلن يسامحه وطن وثق فيه وعلق عليه آمالاً كثيرة. ولا تحسبوا أن أحمد شفيق يمكن كغيره أن يركن إلي الاستنامة والقعود أو يخلد للراحة في كتاراكت والأقصر والغردقة في شهر العسل الطويل بينما أهالينا وأبناؤنا يغرقون في العبارة أو تجرفهم السيول أو تحترق بهم القطارات أو يأكلهم الغلاء وتكويهم الأسعار وتوحش التجار. شفيق لن ينتظر من وزير أن يجترح له قانوناً تفصيلاً للجامعات الأهلية ليقدم له مليارات الجنيهات من قوت الغلابة هدية في جامعة النيل التي حولها وزير التعليم العالي عشية انتفاضة الثلاثاء المشهود إلي جامعة أهلية لتئول ملكيتها من الدولة إلي نظيف وشركاه. أحمد شفيق ليست له مصلحة خاصة تجعله يغض الطرف عن الفساد والالتفاف والتربح والتواطؤ. إنه رجل منضبط وهو جد مختلف أثبت في الأيام القليلة لوزارته أنه في اشتباك ومبادرة واستجابة مع مستجدات الحياة والسياسة وسرعان ما سوف يتخلص من بقايا وزراء نظيف فهم عبء علي حكومته وعبء علي الدولة وميراث ثقيل من عدم الكفاءة والتفريط والعشوائية والتواطؤ والارتجال. إن الذين أفسدوا لايمكن أن يكونوا قادرين علي الإصلاح فهم تعوزهم الكفاءة والسياسة والوعي والتجرد والفهم، وإلا لما كانت أزمة النظام ومأزق السياسة اللذان أديا إلي الانتفاضة والثورة. أما أنتم يا من أعرفكم وتعرفون أنني لست من زمرة الحكماء الذين يتصدرون المشهد، ولست ممن تاجروا بقضيتكم رغم أننا مشينا معاً مشوارها الطويل ومنذ سنوات، ولم أحاول التحدث باسمكم وإن أعطيتموني ذلك الحق، بل لم أتحدث لأي من وسائط الإعلام وفضائياته, ولم أملأ الدنيا تنظيراً وتقعيداً وتوصيفاً وتحليلاً وتخريجاً رغم قدرتي عليها، ذلك أنني أومن أنكم وحدكم من صنعتم الثورة، ووحدكم من تستطيعون التحدث عنها والوصول بنا إلي بر الأمان، لكن بما أن بعضكم سألوني وطلبوا الرأي والمشورة، فهأنذا أجيبكم وبكل الصراحة وبمنطق العلم الذي نحترم قانونه وأنتم أول من تفاعلتم في إطاره وما كان يمكن لثورتكم أن تكون لولا منطق العلم ومنهجه ومعطياته، فلنحتكم لقانون العلم الذي أكد لنا من قبل حتم قيام ثورتكم عندما زادت معاملات العشوائية والفوضي "معاملات الإنتروبيا" في أركان نظامنا السياسي، هو نفسه القانون الذي يحتم علينا أن نترك للتفاعل وقته حتي يؤتي نتائجه، وعلينا ألا نتعجل التفاعل فتخرج نواتجه عشوائية غير منضبطة علي غير ما نريد ونأمل. لكل تفاعل، وثورتكم تفاعل والتغيير تفاعل والتظاهر في ميدان التحرير والقائد إبراهيم تفاعل، ولكل منها فترة احتضان INCUBATION PERIOD لا ينبغي تعجلها أو تقصيرها إلا بمعجلات ومحفزات قادرة، وهي في حالتنا هذه "قوة الجيش وقدراته" وهي وحدها القادرة علي التعجيل بالنتائج، لكن الجيش أعلن حياده وعدم تدخله ويكفيه شرفاً أنه حمي تفاعلكم وأمن له فترة حاضنة وليس في مقدور أحد أن يطلب من الجيش أكثر مما يستطيع وكفاه ما قدمه، فلم يقمع الثورة ولم يمارس عنفاً حاول البعض بسذاجة وسوء تقدير أن يجره إليه. إذن نحن في مرحلة ال INCUBATION وهي بطبيعتها العلمية STEADY STATE أي متزنة وتدريجية تتفاعل داخلها كل عناصر ثورتكم الناهضة لتؤتي نتائجها المرجوة في تحول ديمقراطي حقيقي ودستور عصري يؤمن مفاهيم المواطنة ويحمي الحريات العامة ويؤدي إلي نزاهة الإنتخابات وشفافية الإجراءات وتداول سلمي للسلطة وعدالة اجتماعية وتكافؤ فرص ومناخ عام ضد الفساد، مناخ دافع للتقدم والنهوض والتنمية، وكلها نواتج تحتاج وقتها، وهي في طور التشكل والتكوين، هي في منتصف الطريق أثناء التفاعل، وهي كالجسد الحي يتخلق من نطفة فعلقة فمضغة وكما يقول سبحانه: " ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ- المؤمنون 14". إن ثورتكم الآن في ال TRANSITION STATE فلا تتعجلوا النتائج حتي لا تخرج مسخاً مشوهاً. هذا عن رأي العلم وهو رأي مجرد لا يعرف الاستثناء، أما منطق السياسة فهو أمامكم فضاء مفتوح وقد عرفتم مداخله ومخارجه وأحسب أنكم لن تضلوا الطريق، وكونوا علي ثقة أنه أبداً لن تعود عقارب الساعة للوراء، فمصر اليوم بفضلكم ليست هي قبل 25 يناير ولن تكون. وهاهي ساعة الجد قد حانت وفتحت كل الملفات ولسوف تطول كل المفسدين. حققوا مكاسبكم وهونوا علي أنفسكم فقد أعطيتم الدرس في حب الحياة والحرص عليها، ورغم ما قدمتموه من شهداء لازلتم قادرين علي الصمود والابتسام، تحتفلون بزفاف أحدكم وتغنون لمصر وتغيرون وجه الحياة. إنها لحظة مفارقة فاحذروها وتحسبوا لها، خذوا استراحة المحارب، حاوروا سليمان وأحمد شفيق، أعطوهما فرصة فلربما كان مخرجاً، وإلا فعودوا إلي مواقعكم وثورتكم وميدان التحرير سيظل قبلتنا جميعا. راجعوا معي ما قاله أبو العتاهية في صدر المقال وتأسوا بما قاله مولانا جلال الدين الرومي: "لابد لنا من الصمت بعض الوقت حتي نتعلم الكلام "، لا تتشبثوا بالرأي فهكذا فعل من قمتم بثورتكم عليهم، الذين لم يصغوا لأحد ولم يحاوروا أحداً، ونسوا أنه لا أحد يحتكر الحقيقة والصواب وحده. لا تنه عن أمر وتأتي مثله، عار عليك إذا فعلت عظيم. لقد عانيتم من سياسات العناد والاستكبار والاستبداد والتهميش والإقصاء، فلا تسمحوا لثورتكم الناصعة أن تلونها نقائص أنتم أول رافضيها. تفكروا وراجعوا وأياً ما يكون خياركم فأنا معكم ومعكم كل الشرفاء المخلصين من أبناء وطنكم ومعنا عناية الله ترعاكم وتسدد خطاكم لتخرجوا بنا من دوائر القعود والتخلف والتردد وتتجاوزوا بنا أسئلة المهانة والبلادة والعناد إلي أسئلة الثورة والعلم والمعرفة والمصير وآفاق التقدم والمستقبل والنهوض.