بينما تفخر كل دول العالم بمنتجاتها، بل وتضخ من أجل ذلك الملايين والمليارات لأغراض الترويج، فإننا في مصر نجتهد في الطريق العكسي، وهو كيف نشوه منتجنا، متأثرين ب «عقدة الخواجة» التي يبدو أنها لن تفارقنا. يظهر ذلك في كل شيء في حياتنا من المأكل إلي الملبس إلي تجهيزات المسكن، فأنت بلا تردد ستفضل التفاح المستورد عن نظيره المحلي، وستفعل ذلك أيضا وأنت تشتري قميصك، وإذا خيرت بين السيراميك المحلي والمستورد وأنت تجهز مسكنك، سيكون قرارك للمستورد بلا تردد. هذا الإنحياز الدائم لما هو من الخارج، فطن له النصابون، فبات من السهل عليهم أن يبيعوا لك منتجا ذي جودة ضعيفة تحت وهم أنه «مستورد». قد تحزن في هذه الحالة علي ما أنفقته من المال، ولكن الأمر عندما يمتد إلي الدواء، فأنت ستحزن علي الصحة، وهي الأهم، إلي جانب المال، وهذا الإحساس من المؤكد أنه حدث لمن تعامل مع صيدليات تم ضبطها في ثلاث محافظات مصرية تبيع عبوات مغشوشة من دواء السوفالدي المستورد، المستخدم في علاج فيروسات الكبد. ولأن الأمر جد خطير، لأننا في هذه الحالة لا نتعامل مع سلعة عادية، بات من الضروري أن نعرف كيف يصل هذا الدواء المغشوش للصيدليات، وما هو الإجراء الواجب اتخاذه حيال هذه الصيدليات لوأد الظاهرة، وقبل ذلك ما الفرق بين السوفالدي المستورد وبديله المصري؟.. وهل هذا الفرق يستدعي الإقبال الشديد علي المستورد، بما يفتح الباب أمام أصحاب الضمائر العفنة لبيع عبوات مغشوشة منه؟. الإجابة علي هذه الأسئلة كانت تقتضي منا في البداية معرفة كيف يتعرف المريض علي هذه الصيدليات، بحيث يذيع صيتها ويعرف عنها أنها تبيع السوفالدي المستورد بأسعار أقل من مثيله في السوق، في حين تبيعه في الحقيقة ليس سوي دواء مغشوش.. لم أكن بحاجة إلي القيام بجولة بين الصيدليات لاكتشاف الحقيقة، فالطريق الذي أرشدني إليه محمود فؤاد المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء وفر كثيرا من الجهد، حيث قال الرجل: «عليك بموقع فيس بوك». لم ينتظر الرجل سؤالي البديهي عن علاقة الفيس بوك بتجارة الأدوية المغشوشة، وأضاف بمزيد من التفاصيل : « أكتب في خدمة البحث بالموقع عبارة «أدوية مستوردة للبيع».. وستعرف حجم المشكلة». علي المكشوف المفاجأة والتي ربما لا يتوقعها البعض، أن ما يخفيه المتاجرون بالسلع المستوردة المغشوشة من الملابس وخلافه، لا يخفيه المتاجرون بصحة المصريين، والذين جعلوا من مواقع التواصل الاجتماعي منصة لاجتذاب زبائنهم الباحثين عن أمل الشفاء. ورصدت الأخبار ما لا يقل عن 100 صفحة ومجموعة علي موقع فيس بوك مخصص بعضها لجذب الزبائن إلي صيدليات بيع الأدوية المستوردة، وبعضها تابع لمن يديرون هذه التجارة من منازلهم. ويشير العدد الكبير لهذه الصفحات والمجموعات إلي رواج تلك التجارة، والتي تستفيد من «عقدة الخواجة»، كما يقول د.محمد عز العرب استاذ الكبد والجهاز الهضمي بالمعهد القومي للكبد.. وعقدة الخواجة، التي يعنيها د.عز العرب، هي حرص أطباء الإدارات الطبية ببعض البنوك والشركات علي وصف دواء السوفالدي المستورد لمرضاهم، مع أن البديل المحلي لا يقل عنه جودة وكفاءة. يقول استاذ الكبد والجهاز الهضمي: «عندما يحدث تهافت علي شراء المستورد علي حساب المحلي، يكتسب سمعة تجعل من السهل استغلالها في بيع المغشوش منه، استغلالا للحاجة إليه وارتفاع سعره في نفس الوقت». سعر المستورد وإذا كان من الصعب عاجلا علاج مشكلة «عقدة الحواجة»، كونها ثقافة مترسخة في العقل المصري، فإن د.عز العرب يطالب بسرعة علاج مشكلة سعر دواء السوفالدي المستورد، والذي يباع في الصيدليات بمبلغ يعادل سبعة أضعاف قيمته في المراكز التابعة لوزارة الصحة، موضحا ان سعر زجاجة السوفالدي المستورد في الصيدليات يصل إلي 14 ألفا و940 جنيها، فيما يصل سعره في مراكز وزارة الصحة إلي 2200 جنيه، بحسب د.عز العرب.. ويري د.عز العرب أن تطبيق مواد القانون رقم 449، والتي تنص علي بيع الدواء بأقل سعر في العالم، يمكن أن يساهم في علاج المشكلة، لأن الضغط علي مراكز وزارة الصحة أدي إلي وجود قوائم طويلة من الانتظار، دفعت البعض إلي اليأس من الانتظار والاستجابة لأمل يلوح لهم من بعيد، علي يد محترفي بيع الأدوية المستوردة المغشوشة. الأمل مصري يرفض د.محمد سعودي الوكيل السابق لنقابة الصيادلة الإنصياع لثقافة «عقدة الخواجة» في التعامل مع قضية « دواء السوفالدي»..ويقول ساخرا: « الدواء ليس سيراميك أفرق فيه بين الفرز الأول والثاني، فالدواء واحد لا فرق فيه بين المحلي والمستورد». وانطلق الوكيل السابق لنقابة الصيادلة من ذلك للقول بأن دواء السوفالدي المنتج محليا لا يقل كفاءة وجودة عن نظيره المستورد، ووصف ما يقال عن أن هناك فرقا بين المادة الفعالة في الدواء المصري ونظيره المستورد، بأنه «شغل دجل»، مضيفا:» المادة الفعالة هي أرخص شيء في صناعة الدواء، ولكن التكلفة تكون في الانتاج والربح «. وواصل سعودي تحيزه للمنتج المحلي في الدواء قائلا: « هناك ارتفاع في أعداد المصريين المصابين بالضغط والسكر، وفي نفس الوقت ارتفعت متوسطات أعمار المصريين، فلو أن دواءنا المنتج محليا والمستخدم في علاج الضغط والسكر ليس بخير، ما حدث ذلك». وتابع: « للأسف بعض الأطباء يروجون للسوفالدي المستورد من أجل مصلحة مع الشركات المنتجة، وهذه اساءة لسمعة الدواء المصري». وأضاف: « الدواء المصري بخير ويتم تصديره لمعظم الدول العربية، كما لدينا مستثمرون مصريون في مجال انتاج الدواء بطاجاكستان، ويصدرون منتجاتهم لأوروبا، لكن مشكلة الدواء المصري الوحيدة يمكن أن تكون في الأمور الترويجية مثل شكل العلبة». إحكام الرقابة يري د.عادل عدوي وزير الصحة في حكومة تسيير الأعمال، أن الوزارة تقوم بدورها في هذا الصدد من خلال الإدارة المركزية لشئون الصيدلة. ويقول د.عدوي للأخبار: « متي توافرت المعلومات، تقوم الوزارة بالتنسيق مع الجهات المختصة بعمليات ضبط المخالفات، وهو ما حدث مؤخرا مع الصيدليات التي ضبطت تبيع أدوية سوفالدي مغشوشة». ولا تملك الوزارة آلية تمنع بها وصول الأدوية المغشوشة إلي الصيدليات، مضيفا: « الدواء المغشوش يتم تهريبه مثلما يتم تهريب أي منتج آخر، وعندما يتوقف تهريب المنتجات الأخري، سيتوقف تهريب الدواء المغشوش».. ولا يختلف د.عز العرب مع د.عدوي فيما ذهب إليه من عدم مسئولية الوزارة عن وصول الدواء المغشوش للصيدليات، لكنه يري أن الدور الرقابي اللاحق الذي تقوم به الإدارة المركزية لشئون الصيدلة يحتاج إلي تدعيم. وقال: « في إدارة الصيدلة بالوزارة ما بين 1200 إلي 1500 مفتش صيدلي، بينما يوجد في مصر 63 ألف صيدلية، فكيف يمكن لهؤلاء فقط أن يحكموا الرقابة علي هذا العدد». منافذ التهريب ولا يري د.سعودي في عقاب الصيدلي الذي يبيع الدواء المغشوش حلا عاجلا للمشكلة، رغم اقتناعه بأهمية وضرورة حدوث ذلك. ويقول سعودي: « وفق قانون النقابة يتعين شطب الصيدلي الذي يضبط بهذه المخالفة، وهذا يحتاج إلي تعاون من جهات التحقيق، بإبلاغ النقابة بأي مخالفة يقع فيها صيدلي ويصدر بحقه حكم قضائي عند ارتكابها».. وتابع: « حدوث هذا الأمر ضروري لا شك في ذلك، ولكن القضاء علي المشكلة يأتي بأن يتم المنع من المنبع» . وحمل الوكيل السابق لنقابة الصيادلة القائمين علي المطارات ومنافذ الحدود المصرية مع الدول الأخري المسئولية عن ذلك.. وقال: «عندما تم احكام الرقابة وصل سعر الشريط المهرب من هذا الدواء إلي 200 جنيه، وقلل ذلك من تداوله، وهذا ما نطالب بحدوثه دائما».