وطبعا ليس العيب في الإسلام، بل في هذه الأحزاب التي اختطفت الإسلام، ولا تفهم من شريعة الإسلام سوي شريعة الغاب جاءت الثورة هذه المرة من الشرق لا من الغرب، من العراق لا من تونس، ومن قلب الجحيم، ومن دولة مفككة، سيطرت فيها الأحزاب الدينية علي السلطة، وحكمت الشارع لأكثر من عقد بعد إسقاط الغزو الأمريكي لصدام حسين، وعاثت في الناس فسادا، وهو ما كان له رد فعل عاصف في ثورة العراق الجديدة، وخرج المتظاهرون بمئات الألوف يهتفون «لا شيعية ولا سنية.. تسقط شلة الحرامية». والمعروف أن العراق بعد صدام تحكمه الأحزاب الدينية، أو أحزاب ما يسمي بالإسلام السياسي، رئيس وزراء العراق السابق والحالي من حزب «الدعوة الإسلامية»، ورئيس البرلمان من حزب الإخوان المسلمين، والأحزاب الأخري الظاهرة غالبها ديني باستثناء جماعة إياد علاوي، وكلها تشارك في توزيع المغانم الوزارية، وتحكم بالمحاصصة الطائفية، وتعطي الأكراد رئاسة الدولة الديكورية، مع كيان خاص بهم في شمال العراق، وتطبق دستور بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق بعد الاحتلال، والذي لا تبين فيه هوية محددة للعراق، اللهم إلا في مادة محشورة تتحدث عن كون عرب العراق جزءا من الأمة العربية، وكأن العرب في العراق مجرد أقلية، فيما لا يوجد حزب قومي عربي واحد بالعراق، فالأحزاب القومية محظورة، واجتثاث «حزب البعث» هدف مشترك لكل جماعات الإسلام السياسي، من الإخوان إلي حزب الدعوة، وإلي جماعة مقتدي الصدر وحزب عمار الحكيم، فكلهم يطلقون اللحي، ويضعون العمائم، ولا يعرفون شيئا اسمه عرب ولا عروبة، ولا حتي وطنية عراقية، بل الحكاية كلها سنة وشيعة، وإما أن تكون حزبا سنيا أو حزبا شيعيا، وكان طبيعيا أن تكون الغلبة لأحزاب الشيعة بحكم التكوين السكاني للعراق، وأن يذوي حزب الإخوان في أوساط السنة، وأن يلتحق بالأمريكيين والأتراك وحكام الخليج في وضع العمالة والارتزاق المباشر، وأن تنهض جماعة «داعش» بعبء تمثيل السنة، وعلي طريقة خلافة قطع الرءوس، ردا علي فظائع ومذابح ميليشيات أحزاب الشيعة، وأن يتحول العراق إلي مقتلة دامية، في الوقت الذي تفرغ فيه قادة الأحزاب الدينية لسرقة العراق الذي كان الأغني، فأصبح الأفقر والأفسد بامتياز، وصار العراق الحالي مصنفا كواحد من أكثر دول العالم فسادا، ولا ينافسه في اللصوصية عربيا سوي السودان المحكوم أيضا بحزب ديني إخواني. وطبعا ليس العيب في الإسلام، بل في هذه الأحزاب التي اختطفت الإسلام، ولا تفهم من شريعة الإسلام سوي شريعة الغاب، وسوي شريعة الفجور في السرقة ونهب الأرزاق، وسوي نشر الفرقة بين المسلمين، وتفكيك أوطانهم، وجعل الأمر طائفية لا شوري ولا مواطنة متساوية، وسوي توفير حق القتل علي الهوية الطائفية أو العرقية البدائية، وهكذا تفكك السودان، وتفكك من قبله الصومال بصراعات الأحزاب الدينية، وتفكك العراق الذي كان حصنا منيعا لأمته العربية، وأفرزت تجربة الأحزاب الدينية فيه أسوأ أنواع الحكم، وأكثرها لصوصية في التاريخ، فمن تحت العمائم، ومن خلف الدعوات لتطبيق الشريعة الإسلامية، أثبت لصوص بغداد أنهم لا ينافسون، فقد سرقوا مئات المليارات من الدولارات، أخذت أمريكا ما أخذت، وأخذت إيران نصيبها من الكعكة العراقية، وتكفل نوري المالكي الأمين العام لحزب الدعوة بالباقي، وتحول المتنافسون علي مقاعد السلطان إلي عصابات من اللصوص، أخذ طارق الهاشمي الإخواني ما سرق وهرب إلي تركيا، وتركت عائلة «النجيفي» مدينة الموصل لداعش، واستعاذت بسطوة الأتراك، شنقهم المالكي بحبل فسادهم، ووضع الدولة في جيبه، أنشأ جيوشا علي الورق، وصنع وزارات وأجهزة أمنية علي الورق، وأخذ لنفسه الميزانيات كلها، وأنشأ بها عصابات مسلحة تدافع عنه، ويستغني بها عن جيوش وأجهزة أمنية فارغة المحتوي، ومليئة بعشرات الآلاف من «الأشباح» و»الفضائيين»، أي أنه لا وجود لهم أصلا، وهناك من قبض رواتبهم ومخصصاتهم، ويضعها في حسابه، ولا بأس أن يبسمل ويحوقل، ويمد سجاجيد الصلاة، ويتحدث عن حروب الحسين ويزيد، ويذهب إلي «النجف الأشرف» طلبا لبركة الإمام علي السيستاني. ومن الآخر، فقد تحول العراق إلي حقل تجارب ذرية للأحزاب الدينية، والتي تحولت إلي أحزاب طائفية بحكم التنوع والثارات التاريخية، السنة يكفرون الشيعة، والشيعة يكفرون السنة، والاستقطاب المدمر عند القواعد يخدم الأحزاب في التصويت الانتخابي، لكن قادة الأحزاب الدينية لا يكفرون بعضهم بعضا، بل تجري بينهم قسمة العدل في توزيع عوائد السرقة، وطبيعي أن يكون الغنم الأكبر لأحزاب الشيعة، وأن تجري عمليات النصب باسم الديمقراطية التي لا يغلبها غلاب، والتي لا تفرز من عفن الفرز الطائفي سوي عفن الحكم، والذي لن تصلحه إجراءات حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي، وهو خليفة النصاب الأعظم نوري المالكي، وزميله الملتحي في حزب الدعوة الإسلامية ذاته، فالدودة في أصل الشجرة، والطالح لا يأتي بالصالح، وهو ما يفسر ضراوة هجمة الأحزاب الدينية اللصوصية علي انتفاضات المتظاهرين المدنيين من البصرة إلي بغداد، والتي تريد كنس الفساد وإعادة العراق لأهله العرب، وتهاجمهم الأحزاب الدينية، وتتهمهم بالمساس بالرموز المقدسة، وكأن الفساد تحول إلي رمز وطقس ديني، وكأنه يكفي أن تقرأ «عدية يس» علي ما سرق، فيصبح حلالا بلالا، ويصبح السارقون من أولياء الله الصالحين، لا تمسهم نار الدنيا، ولا تنقطع عنهم كهرباء المراوح والتكييف التي لا تزور بيوت العراقيين العاديين، ويأمنون شر المحاكمات والتعليق علي أعواد المشانق، وعلي طريقة خشية المالكي من نداءات المتظاهرين بإعدامه، وإعدام قادة الأحزاب الدينية بجرم الفساد المشهود. قد تبدو المسألة عراقية خاصة، لكنها أكبر وأعم في المغزي، وبدليل ثورة «طلعت ريحتكم» التي اشتعلت بعدها في بيروت، فالفساد والخراب يصاحبان الأحزاب الدينية والطائفية حيثما حلت أو ارتحلت، ولا بديل عن خلعها إن كنا نريد استرداد الإسلام والعروبة.