وفي هذه الحقبة.. كانت العلاقات المصرية الافريقية.. تدار علي أعلي المستويات.. ولم تكن تسند في كل الأحوال لوزارة الري.. أو حتي وزارة التموين إلخ. الجغرافي العربي أبوحسن بن حسين علي المعروف باسم المسعودي.. هو الذي خلع علي نهر النيل اسم «ملك انهار العالم» وهو أول من كتب بالتفصيل عن نهر النيل.. وعن العلاقات بين سكانه خلال فصول السنة الأربعة.. وقال إن لون النهر يتغير كل ثلاثة شهور، فتتغير خلالها ملامح مياه السكان.. وكلما تغير لون النهر.. تغيرت حياة جميع الكائنات الحية التي تعيش علي ضفافه. وقال المسعودي إن لون النهر يتأرجح بين الأسود الحالك اثناء الفيضان.. ثم يتحول إلي لون قلائد اللؤلؤ والمرجان.. ثم الذهبي.. ثم الأخضر اليانع.. وفق ما تجري من مياه في مجراه. هذه الحقيقة.. حقيقة ارتباط النيل بحياة المخلوقات.. كانت أول ما لفت نظر محمد علي باشا الكبير عندما وصل إلي حكم مصر.. وتطلع علي الخريطة لموقع الوطن الذي جاء ليتولي زمام أمره وإدارة شئونه. تطلع محمد علي باشا إلي الخريطة.. واكتشف ان المياه التي تعيش عليها البلاد.. تقع في مناطق نائية.. لا تخضع لسلطانه.. وتساءل بينه وبين نفسه. كيف استطيع أن احكم دولة يقع «محبس» المياه في منطقة بعيدة.. بما يمكن الاعداء من اغلاق المحبس.. اذا عن لهم ذلك. وبعد امعان الفكر والتأمل.. اصدر تعليماته لابنه اسماعيل بتكوين جيش.. يرابط عند منابع النيل.. وحماية المنهل الذي تتفرع عنه كل المناهل.. واستطاع اسماعيل تكوين جيش مكون من ثمانية آلاف جندي من المصريين والألبان والأتراك.. تحت قيادة ضابط مدفعية امريكي الجنسية.. واتجه بهذا الجيش المزود بالبنادق والمدافع في صيف سنة 1820.. إلي مدينة «شندي» جنوب دنجولا.. التي تبعد عن المنابع بنحو 200 كيلو متر.. ودارت هناك معارك طاحنة.. بين القبائل.. وبين قوات جيش محمد علي.. استقرت بعدها الأوضاع.. وليس ذلك موضوعنا. موضوعنا.. ان قضية مياه النيل.. كانت محل اهتمام جميع الحكام في مصر.. منذ العصر الفرعوني.. وكانت تدار في كل الاحوال علي مستوي القمة.. والقيادة السياسية.. واعلي مستويات السلطة.. ولم يحدث في تاريخنا كله استثناء واحد.. الا في حالة واحدة عندما اسند الرئيس الأسبق حسني مبارك ملف مياه النيل.. لوزارة الري.. وترك النقاش حولها بين أساتذة كلية الزراعة وبرامج الدردشة.. ووزراء الري الذين يتنافسون في اصدار البيانات والتصريحات. غابت السياسة.. لاول مرة عن قضية مياه النيل.. وتوارت سلسلة طويلة كم الحقائق التي تفرضها اوضاع الموقع.. والمجال الحيوي وارتباط المصالح.. ووحدة الاهداف.. وهي موضوعات لا تعالجها القواعد الفنية.. ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بوزارة الري الذي يكن لها كاتب هذه السطور كل الاحترام والتقدير ولكن المشكلة هنا.. اننا بصدد قضية تتعلق بمجالنا الحيوي.. إلي الجسد الواحد.. الذي تتشابك فيه المصالح.. وعندما يقام سد في إحدي دول مجالنا الحيوي.. فهو في الحقيقة يخدم مصالحنا.. ويدعم روابط التنمية الاقليمية المشتركة.. في كل المجالات الزراعية والصناعية.. وحركة التبادل التجاري الزراعية والصناعية.. وحركة التبادل التجاري في جميع السلع الغذائية والخدمات.. وفي مجالات الاعلام والابداع والتبادل الثقافي.. إلخ.
وعلينا هنا أن نتذكر أنه في أوائل ستينيات القرن الماضي كانت الإذاعة المصرية.. تبث برامج بأكثر من عشرين لغة افريقية.. في إطار ما كان يعرف بالبرامج الموجهة.. ولي حديث اجريته مع الزعيم الكيني جومو كينياتا.. بدأ بتقديم الشكر للإذاعة المصرية التي تبث برامجها بلغة اللينجوالا. وفي هذه الحقبة.. كانت العلاقات المصرية الافريقية.. تدار علي أعلي المستويات.. ولم تكن تسند في كل الأحوال لوزارة الري.. أو حتي وزارة التموين إلخ. السخيف في الموضوع.. انه في الوقت الذي اسند فيه حسني مبارك مشروع سد النهضة الاثيوبي لوزارة الري.. من باب رفع المشاكل عن كاهله.. وتراجع الهمة بعد التعثر أثناء السير والانتقال من ملمة إلي ملمة.. عند الصعود وعند الهبوط.. جاء من بعده محمد مرسي الذي عقد اجتماعا سريا.. علي الهواء مباشرة من قصر رئاسة الجمهورية.. انطلقت فيه الالسن بالتهديدات الساقطة.. بكل ما تحتويه من صنوف العجرفة والغطرسة.. الناجمة عن غشاوة الأمية.. والخيانة الوطنية. وفي تلك الأيام سربت عصابة الإخوان الإرهابية تسجيلا علي مواقع التواصل الاجتماعي للمشير عبدالحليم أبوغزالة اشار فيه لفكرة استخدام الحل العسكري لوقف بناء سد النهضة الاثيوبي علي النيل الازرق.. وهو تسجيل نشكك في كل كلمة جاءت به. لانه يتنافي مع المنطق.. ومع الحس الوطني للمشير الراحل.
وهكذا تراجعت ثقافة الوحدة الافريقية.. التي عشناها طوال حقبة الستينيات.. وانكمشت الرؤية الشاملة للعلاقات بين الاشقاء.. وهي العلاقات التي كانت تدار دائما علي مستوي القمة.. ولقاءات الزعماء.. وتحولت إلي علاقات تدار بمؤسسات فنية.. لا علاقة لها بالسياسة. ولا بالمجال الحيوي.. وباتت تقاس بحصة مصر من مياه النيل.. وتبارت الاقلام تدعو رفع الأمر لسلطات التحكيم الدولي والعودة بنا للثقافة التي سادت طوال حقبة الاستعمار.. وتمزيق القارة وإثارة النزاعات بين الاشقاء.. في الوقت الذي كانت.. قد قامت فيه منظمة الوحدة الافريقية سنة 1963 من اجل هدف واحد.. هو دعم العلاقات بين دول وشعوب القارة.. التي وقفت إلي جانبنا في المنظمات الدولية بعدما جري سنة 1967... وهو أمر يطول شرحه!
الآن نحن علي أبواب مرحلة جديدة في تاريخ وادي النيل.. تقوم علي ثقافة المجال الحيوي المشترك.. وان أي مشروع يقام في هذا المجال.. هو لصالح جميع شعوب المنطقة.. ويعد اضافة لمجالات التعاون بين الاشقاء.. ويتجاوز المشروعات القديمة.. وينتقل بالعلاقات الي مراحل جديدة.. وعصرية ومتطورة.. بل إنه يساعد في تنمية مناطق سكانية داخل كل دولة نشترك في المجال الحيوي الواحد. واذكر هنا علي سبيل المثال.. مشروع تنمية صعيد مصر.. وهو المشروع الذي تعثر كثيرا، وطويلا.. ولايزال يتعثر لسبب بسيط هو غياب الرؤية السياسية.. التي تصورت انه بالامكان تنمية جنوب البلاد من شمالها.. وتنمية الصعيد من القاهرة.. الامر الذي ادي لفشل كافة محاولات تنمية الصعيد. تنمية الصعيد في مصر تبدأ من اديس ابابا.. من التعاون في مجالات المحاصيل الزراعية.. وإقامة خط سكك حديدية يربط بين اثيوبيا ومصر.. والاستثمار في مشروعات التصنيع الزراعي.. وغيرها من مئات وآلاف المشروعات التي تحقق الفائدة لكل اطراف المجال الحيوي.. بعيدا عن ثقافة حصة مصر من مياه النيل.. وإشعال الصراع من اجل قطرة مياه!