مشكلة الزراعة في مصر ليست في قلة البذور ولا في ارتفاع أسعار الأسمدة ولا حتي في نقص مساحة الأراضي المزروعة، فالبذور توفرها الدولة وشركات الاستيراد بكثرة وبأصناف متعددة الجودة، وحاجة أي محصول من السماد لا تزيد عن بضع شكائر لايتعدي ثمنها اجر عامل زراعي في عشرة أيام علي الأكثر، وما تم استصلاحه وزراعته من الأراضي الصحراوية رقم ليس بالقليل، إنما المشكلة الحقيقية هي في وجود الفلاح نفسه الذي انقرض وأصبح غير موجود أصلا، والفلاح الذي أعنيه هنا هو ذاك الرجل الذي شاهدناه في الستينات صاحب الحرفية والمهارة والخبرة التي مكنته من جعل حقله مستقيم الخطوط محفوف الأطراف متناسقا كلوحة جميلة مبهجة رسمتها ريشة فنان مبدع، رجل عشق الأرض فألفه الزرع، وكيف لا وقد كان الفلاح يقضي جل نهاره وسط حقله، يحرث الأرض ويغرس الحب ويرقب إنباته فإذا شقت البراعم التراب وخرجت تسبح بحمد ربها فرح بها فرحته بمولود طال انتظاره، يحيطها برعايته ويسير بينها بحذر يتحسس موضع قدميه كي لا تطأ نبتة فتهلكها، ثم يقطع الحقل كل يوم ذهابا وإيابا، ينزع الحشائش حتي لا تشارك الزرع غذاءه، فاذا ترعرعت البراعم وصارت عيدانا قلب أوراقها خوفا من الآفات، وإذا حل موعد الحصاد شمر عن ساقيه وشد حزام وسطه ليجمع ما قسمه له ربه من رزق فيدخر منه ما يكفيه عامه ويبيع ما تبقي. كان نهاره عملا ومعاشا، فاذا جن الليل حيزت له الدنيا بحزافيرها فيصلي العشاء في جماعة ويمدد جسده علي الحصير حتي مطلع الفجر، كان شراء الخبز من أفران البندر عارا وابتلاء يجب ستره عن أعين الناس، فالمرأة التي لاتجيد الخبز لا تصلح أبدا ان تكون زوجة، كان الفلاح سعيدا لأن حياته كانت بسيطة، لمسها الشعراء فقالوا فيها قصائد صدح بها المطربون ولطالما تمناها الاثرياء المهمومون بأموالهم، ثم جاء عصر العولمة والانفتاح وغزت اجهزة الدش والنت الريف فانقلبت الموازين وتبدلت حياة الفلاح فأصبح نهاره لباسا وليله معاشا وعرف الشباب طريق السفر الي خارج البلاد والعودة بالدولارات واليورو، فانتشرت حمي السفر ولم يعد الفلاح فلاحا ولم يكتف بهجر المهنة بل منهم من باع ارضه واستدان ليسافر ابنه للخارج ولو كانت رحلته محفوفة بالمخاطر والموت غرقا، حتي خريجو مدارس وكليات الزراعة راحوا يبحثون عن وظيفة وهجروا الزراعة، ولا حول ولا قوة الا بالله.ش