اعلموا أن دم هؤلاء المصريين ليس في رقبة الخارجية بل في رقبة نظام دام ثلاثين عاماً كرس فيها الفقر والمهانة لأبناء هذا الوطن في الداخل او الخارج. نعم .. العنوا الفقر والعوز اللذين أجبرا العمال المصريين علي السفر الي ليبيا والعيش في جحيم الفوضي والقتال الضاربين هناك. العنوا الفقر الذي يدفع عاملاً مصرياً مسكيناً لهجر بلده وأهله والتضحية باستقراره العائلي (علي فرض انه موجود أصلاً) والتخلي عن دفء حضن الوطن سعياً وراء لقمة عيش حاف قد لايجدها وسط أهله. العنوا الفقر الذي منعه من الفرار بجلده من نار الحرب الليبيبة خجلاً من العودة الي قريته بخفي حنين ذليلاً منكس الرأس بلا مال ولا جلباب يستر ضلوعه البارزة من صدره. العنوا الفقر الذي صبّره علي البقاء في سعير الحرب الليبية عساه ينجو من قصف النيران أو المذابح المتوالية متوارياً من نظرة شماتة من جار، أو نظرة تساؤل من طفله بحثاًعن هديته اليه ومن أفواه جائعة مفتوحة في انتظار لقيماته التي أتي لها بها. العنوا غلبة الدين وقهر الرجال. إنه الفقر والسعي للرزق الذي قتل مئات الشباب المصريين حين التهمتهم أمواج البحر العاتية قبل سنوات وهم في طريقهم الي ايطاليا. هو ذاته الفقر الذي أرغم العمال المصريين علي التسلل بطرق غير شرعية عبر الحدود ليتعرضوا للذبح في ليبيا المرة تلو الأخري فلا توجد لهم سجلات أو إحصاءات دقيقة بأعدادهم في بلاد مهجرهم او عملهم. لاتجلدوا وزارة الخارجية وتتهموها بالعجز والفشل. فأكفأ الدبلوماسيات في كبريات الدول تقف عاجزة أمام جنون وفوضي المشهد الليبي. كل ما يستطيعون القيام به هو تحذير مواطنيهم من السفر الي ليبيا، وتوفير جسر جوي لنقل مواطنيهم العاملين هناك ومتابعة أوضاع المقيمين ورعايتهم حتي يتم إجلاؤهم بأمان.. قد تجري «الخارجيات» الأخري بضعة اتصالات دبلوماسية ولا مفر من إرسال رسائل سياسية شديدة اللهجة وتحميل السلطات الليبية المسئولية عن سلامة مواطني البلد الفلاني وإلا.. ! لكن هل تملك خارجيتنا هذه ال «وإلا.. «؟ لا أظن. هل تملك خارجيتنا إحصاءات وقاعدة بيانات دقيقة عن المصريين العاملين بليبيا أو بأي بلد آخر من المناطق الساخنة، أماكن سكناهم وأماكن عملهم وأجورهم؟ للأسف هؤلاء المتسربون المتسللون ساقطو قيد في كل شيء، لا دية لهم، لا تستطيع سفاراتنا تتبع تنقلهم في بلاد الغربة. بل إنني أراهن علي انه لاتوجد لدي أية جهة رسمية بيانات عنهم. كل ما يمكن ان يتوافر لديهم هو بيانات المصريين المقيمين هناك بصفة شرعية أو معارين من جهات عملهم. هل تصدق انني حاولت العثور علي أية بيانات في موقع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تشير الي عدد المواطنين المصريين الذين يعملون بالخارج أعمالاً حرة ونسبتهم أو إلي إجمالي القوي العاملة المصرية أو علي مسح لنوعية المهن والوظائف التي يمكن ان يمتهنوها. ولكن بلا جدوي! الجلادون يعترفون بأ ن الأزمة أكبر من وزارة الخارجية، وأضيف الي ذلك انها أكبر حتي من قدرات نظام حاكم جديد مازال يحبو في مصر، ومحاط بشلالات من الأزمات الداخلية والخارجية، أزمات تتشابك مع أوضاع ليبية خارجة عن سيطرة كافة القوي الضالعة في الأزمة. قد تكون خارجيتنا عاجزة عن إدارة أزمة لم تصنعها ولم تكن لها يد فيها. لكن اعلموا أن دم هؤلاء المصريين ليس في رقبة الخارجية بل في رقبة نظام دام ثلاثين عاماً كرس فيها الفقر والمهانة لأبناء هذا الوطن سواء في الداخل او الخارج.