حينما نفض عمر يديه من تراب دفن أبي بكر الصديق قام يخطب في الناس دستور ولايته.. قال عمر: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم وأبقاني فيكم بعد صاحبي.. فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني ولا يتغيب عني ما قالوا فيه عن الجزاء والأمانة «ولإن أحسنوا لأحسنن لهم ولئن أساءوا لأنكلن بهم». وذهب الناس دون نقاش خوفاً من هذا الباطش الجبار وعاد عمر إليهم ووقف علي المنبر وصاح فيهم: الصلاة جامعة فتجمعوا فقال لهم. بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي.. وقالوا قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا ثم اشتد علينا وأبوبكر والينا دونه.. فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق. كنت مع رسول الله فكنت عبده وخادمه وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة فكان -كما قال الله- بالمؤمنين رءوفاً رحيماً فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتي يغمدني أو يدعني فأمضي ثم ولي أمر المسلمين أبوبكر فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتي يغمدني فأمضي حتي قبضه الله عز وجل وهو عني راض والحمد لله علي ذلك كثيراً وأنا به أسعد. ثم إني قد وليت أموركم فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت ولكنها انما تكون علي أهل الظلم والتعدي علي المسلمين فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم البعض ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتي أضع خده علي الأرض وأضع قدمي علي الخد الآخر حتي يذعن بالحق.. وأنا بعد شدتي تلك أضع خدي علي الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف. ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها فخذوني بها لكن علي ألا أختبي شيئاً من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ان شاء الله. هل يصلح هذا الدستور الآن؟ هل يستطيع حاكم في هذا الزمان أن يعد الرعية بهذه الوعود؟ هل يمكن لحاكم أن يواجه رعيته بمثل هذه الالتزامات؟ هل يمكن لراع أن يكون مسئولاً بهذه التفاصيل عن رعيته؟ حقيقة إن الرعايا زاد عددهم وتنوعت مطالبهم وتعددت حوائجهم ولكن في ذات الوقت تعددت أساليب وأنشطة زيادة الدخول إليهم ولكن جاء الزمان الذي لم يجد الحاكم ما يعد به ولكن الوعود تتوالي حتي ينام الناس وتحت وسائدهم مال كسري وخزائن سليمان من الوعود البراقة التي قرأ عليّ أحد قرائي بعضها ثم قال لي: أبنائي في البيت فليس لدي ما أشتري لهم به الكراريس والكتب التي يطلبها المدرسون وكأن الصغار سوف يملؤونها بفلسفة سقراط وشعر أبوالعلاء ان المدرسين يا سيدتي يطلبون كشاكيل يصل ثمن الواحد إلي خمسة عشر جنيهاً تكفي ثمن إفطار أسرة من الفول والخبز فكيف نستطيع أن نلاحق علي تلك المطالب؟ البيت الذي يضم أربعة تلاميذ وتلميذات في المدارس كيف يوالي هؤلاء التلاميذ بهذه المطالب الشديدة المبالغة؟ وتعجبت فقد كنت أعيش في إنجلترا لعامين في أواخر السبعينيات وكان ابني في المدرسة ولم يكن لديه سوي كراس واحد يكتب فيه كل ما يأخذه من مواد ولم يكن الأمر كما قال لي مدير المدرسة لتوفير ثمن الكراريس ولكن لعدم الاثقال علي التلاميذ وجعل العلم سهلاً ميسوراً سواء بين أيديهم في كراس واحد أو لعقولهم ميسوراً ميسراً. إن الأمور يجب أن تسير بشكل رأسي من ولي الأمر إلي الناس وتتفرق بشكل سهل حتي تصل إلي البسطاء ويستطيعوا التنفيذ لحياة تصل سهولتها إلي كل فرد بلا ضيق ولا إحساس بعدم الإمكان. ان العلاقة أصبحت غير متواصلة بين أولي الأمر والناس وكأن هناك انفصالا شبكيا بين الراعي والرعية وقد أوردت خطاب عمر وهو القوي الجبار كما كان التاريخ يروي بشكل مؤصل حتي أقارن بين ما يحدث الآن من عدم التواصل بين أولي الأمر منا والناس بشكل صار يدعو إلي عدم الولاء ولابد أن نعلم جيداً أن الرفض والشراكة في إعلان هذا الرفض مع مظاهرات غير متساوية الغرض هو مجرد زفرات تخرج من صدور الناس حيث باتت الحياة اليومية عبئا علي كل أب وكل أم وأصبح هناك انفصال واضح بين الناس وما يراد لهم.. إن أوراق اللعب اختلطت ولابد من إْعادة ترتيب البيت المصري من أعلي إلي أسفل ومن أسفل إلي أعلي لأن عودة العلاقة بين الراعي والرعية هي أساس الإصلاح وأساس التواصل وأساس التحمل كلما ألم بالوطن أزمة من الأزمات.