من أشق الأمور علي النفس ان نفترق عمن نحب، أو نودع من نحب.. فارتباط الإنسان بواحد أو أكثر من أهله أو ذويه أو صديقه قد يصل إلي درجة الالتحام.. وحين ينفك هذا الارتباط لسبب أو آخر، يحدث ما يشبه الفجيعة التي يصعب المرور فوقها أو تجاوزها.. هذا وأرجو الله أن يصبر الأم الثكلي التي فارقتها وحيدتها فاطمة الزهراء، وكل من أصابه مثل ما اصابها.. الموت يفرق بين الاحباب.. وهو حين يأخذ واحدا منا فكأنه أخذ الآخر معه وهو علي قيد الحياة. ولأن لله في ذلك حكمة- ولله الحكمة البالغة- فقد وعد سبحانه أن يلم شمل المؤمنين وأهليهم في جنة الخلد بلا فراق ولا وداع أبد الدهر.. والله برحمته يرفع الأدني منهم في درجات الجنة إلي الأعلي، حتي يلتئم الشمل من جديد »والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين. وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم« »الطور 12- 32« .. فأن يلتئم الشمل في جنات النعيم حيث لاموت ولا فراق ولا وداع للأحباب، فهو فضل من الله عظيم، يعوض فراق الدنيا ويفوقه مرات بغير عدد. وهذا هو ما يصبر الإنسان علي فراق الأهل والاحباب في الدنيا أو علي الاقل يعين علي الصبر.. ولعل هذا يكون حافزا للواحد منا علي بذل المزيد من الجهد لنيل الدرجات العلي في الجنة حتي ينفع أهله برفعهم إلي منزلته كرما من الله ومنة.. وفي الدنيا نحن لانودع الأحياء فقط، وإنما نودع الاشياء والأماكن التي نحبها.. نودع المساكن التي عشنا فيها وأحببناها.. وأذكر أنني كنت ضمن البعثة المصرية الدائمة لدي الأممالمتحدة في جنيف، وكنت قد انتهيت لتوي من تأثيث شقة، وبذلت جهدا من اجل ان تكون شقة مريحة يستحب سكناها، اذ أتاني أمر النقل إلي بعثتنا القنصلية في برلين.. ووجدتني وأنا أتأهب لإخلاء الشقة، وجدتني متأثرا لدرجة أنني في سفرية لاحقة إلي جنيف، ذهبت ونظرت إلي العمارة التي كنت أسكن إحدي شققها نظرة وداع ثانية.. ونحن حين نودع المناصب التي كنا نشغلها نتألم، كما أن أصحاب المهن يتأثرون حين يضطرون إلي الاعتزال، حين لاتسمح لهم السن أو الحالة الصحية بالاستمرار.. ونحن نودع الصحة حين تتراجع أو حين يصاب الواحد منا بمرض يقعده عن السعي والحركة.. ونحن في لحظة من العمر نودع الحياة كلها.. كل هذا في دنيانا. أما في الآخرة وفي الجنة بالتحديد، فلا فراق ولاوداع لمن نحب ولما نحب .. فالعمر فيها ممتد لاينتهي، والصحة لاتتراجع أبدا، والشباب دائم، ونحن في ضيافة الله عز وجل ننال كل ما نتمني ونحصل علي كل ما نشتهي.. ولانفقد أحدا ولا نفقد شيئا.. بل الصحبة دائمة والنعيم لا زوال له، ولاسبب للحزن ولا للقلق.. ونحن لانغادر الجنة ولا نريد ان نبرحها »إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا. خالدين فيها لايبغون عنها حولا« »الكهف 701- 801«..