أول إجراء من وزارة الرياضة بشأن أزمة «الدروس الخصوصية» في صالة حسن مصطفى    طرح لحوم مبردة بتخفيضات 25% في منافذ «التموين» والمجمعات الاستهلاكية    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 10-6-2024 بالصاغة    جولدمان ساكس يتوقع زيادة الطلب في الصيف على النفط وارتفاع سعرة    «الإحصاء»: 0.8% تراجعا في معدلات التضخم خلال مايو 2024    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الإثنين    المصرية لخبراء الاستثمار: الدولة جادة للتحول نحو اقتصاد أكثر تنافسية يدعم الابتكار    استشهاد شخصين برصاص الجيش الإسرائيلي في طولكرم وطوباس بالضفة الغربية    كوريا الجنوبية تتهم الجارة الشمالية بإطلاق 310 بالونات قمامة نحوها عبر الحدود    جيش الاحتلال: نفذنا عملية عسكرية واسعة في مخيم الفارعة بالضفة الغربية    مواعيد مباريات اليوم: مصر ضد غينيا بيساو في تصفيات كأس العالم.. الجزائر ضد أوغندا    وزير التعليم يتابع امتحانات الثانوية العامة.. ويوجّه بالتصدي لمحاولات الغش    تعرف على عقوبة التحريض على الفجور والدعارة بالقانون    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة إمبابة    البابا تواضروس الثاني يدشن الكنيسة الجديدة باسم القديس الأنبا إبرام بالفيوم    استطلاعات: تحالف يمين الوسط يفوز في انتخابات بلغاريا البرلمانية    "سقيا زمزم": 40 مليون عبوة "مجانا" لإرواء ضيوف الرحمن بمكة المكرمة    بعد زواجها من أمير طعيمة.. يسرا الجديدي تتصدر التريند    السعودية تطلق خدمة أجير الحج والتأشيرات الموسمية.. اعرف التفاصيل    السعودية تستضيف ألف حاج من ذوي شهداء ومصابي غزة بأمر الملك سلمان    لأول مرة مقاتلات أوكرانية تضرب عمق المناطق الروسية    لميس الحديدي: رحلتي لم تكن سهلة بل مليئة بالتحديات خاصة في مجتمع ذكوري    مع فتح لجان امتحانات الثانوية العامة 2024.. دعاء التوتر قبل الامتحان    تعرف على ما يُستحب عند زيارة النبي صلى الله عليه وسلم    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: رئيس «اتصالات النواب» يزف بشرى سارة عن مكالمات التسويق العقاري.. وعمرو أديب عن مدرس الجيولوجيا: «حصل على مليون و200 ألف في ليلة المراجعة»    ضياء رشوان: الرئيس السيسي يضع عينيه على المستقبل    الفلسطيني أمير العملة يتوج بذهبية بطولة العالم بلعبة "المواي تاي"    واشنطن تدعو مجلس الأمن للتصويت على مشروع قرار يدعم مقترح الهدنة فى غزة    تركي آل الشيخ يعلن مفاجأة عن فيلم ولاد رزق ويوجه رسالة لعمرو أديب    الزمالك: شيكابالا أسطورة لنا وهو الأكثر تحقيقًا للبطولات    الكشف على 1346 مواطنا خلال قافلة طبية مجانية بقرية قراقص بالبحيرة    ضمن فعاليات "سيني جونة في O West".. محمد حفظي يتحدث عن الإنتاج السينمائي المشترك    ضياء رشوان ل قصواء الخلالي: لولا دور الإعلام في تغطية القضية الفلسطينية لسُحقنا    «لا تنخدعوا».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم في مصر (موجة حارة شديدة قادمة)    «كنت مرعوبة».. الفنانة هلا السعيد عن واقعة «سائق أوبر»: «خوفت يتعدي عليا» (خاص)    هؤلاء غير مستحب لهم صوم يوم عرفة.. الإفتاء توضح    عند الإحرام والطواف والسعي.. 8 سنن في الحج يوضحها علي جمعة    دعوة للإفراج عن الصحفيين ومشاركي مظاهرات تأييد فلسطين قبل عيد الأضحى    وصفة سحرية للتخلص من الدهون المتراكمة بفروة الرأس    عددهم 10 ملايين، تركيا تفرض حجرًا صحيًا على مناطق بالجنوب بسبب الكلاب    بمساحة 3908 فدان.. محافظ جنوب سيناء يعتمد المخطط التفصيلي للمنطقة الصناعية بأبو زنيمة    برقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في القاهرة والمحافظات (رابط متاح للاستعلام)    عمر جابر يكشف كواليس حديثه مع لاعبي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية    محمد عبدالجليل يقيّم أداء منتخب مصر ويتوقع تعادله مع غينيا بيساو    النسبة التقديرية للإقبال في انتخابات الاتحاد الأوروبي تقترب من 51%    المستشار محمود فوزي: أداء القاهرة الإخبارية مهني والصوت المصري حاضر دائما    رئيس منظمة مكافحة المنشطات: رمضان صبحى ما زال يخضع للتحقيق حتى الآن    عمر جابر: سنفعل كل ما بوسعنا للتتويج بالدوري    اتحاد الكرة يكشف تطورات أزمة مستحقات فيتوريا    نقيب الصحفيين: نحتاج زيادة البدل من 20 إلى 25% والقيمة ليست كبيرة    تعرف على فضل مكة المكرمة وسبب تسميتها ب«أم القرى»    "صحة الشيوخ" توصي بوضع ضوابط وظيفية محددة لخريجي كليات العلوم الصحية    مقتل مزارع على يد ابن عمه بالفيوم بسبب الخلاف على بناء سور    القطاع الديني بالشركة المتحدة يوضح المميزات الجديدة لتطبيق "مصر قرآن كريم"    عوض تاج الدين: الجينوم المصرى مشروع عملاق يدعمه الرئيس السيسى بشكل كبير    مصر في 24 ساعة| لميس الحديدي: أصيبت بالسرطان منذ 10 سنوات.. وأحمد موسى يكشف ملامح الحكومة الجديدة    لميس الحديدي تكشف تفاصيل تهديدها بالقتل في عهد الإخوان    محافظ المنوفية يفتتح أعمال تطوير النصب التذكاري بالباحور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
أوليمبيا.. شارع عبدالعزيز
نشر في الأخبار يوم 24 - 09 - 2013


جمال الغيطانى
القطار يقوم فأتمني الهرب خوفا من الصدمة. لكنه يتجاوزني باعثا آهات الأطفال وذعرهم غير انني أكتم ولا أصيح
شكوكو في قارب مرتديا جلبابه البلدي وطرطوره الشهير، يقعد عند الحافة، ليس النيل. متأكد من ذلك كلما أستعدت المشهد، أمواج ولا شاطئ، هل يبدو مبني هيئة قناة السويس؟ ربما مؤكد شكوكو والقارب والأمواج، لم أعد أذكر من الفيلم إلا هذا الجزئ. كلما استعدته يعاودني ما بدر مني، التراجع إلي الخلف بغتة خشية طرطشة الماء، أن أبتل. مازلت أوشك علي الاتيان بالحركة، كأني مقيم أبدا في السابعة أو ما قبل التاسعة، أي فيلم؟ لا أعرف.
المؤكد أنني كنت في سينما أوليمبيا أول شارع عبدالعزيز إلي يسار القادم من ميدان العتبة الخضراء، أجلس ما بين خالي وأبي، خالي بدون عمامة يحيطها شال بعد أن طلب الجالس منه أن ينزعها لأنها مرتفعة تحجب الرؤيا، سرعان ما تبدلت ملامحه، تكشفت صلعته، فيما بعد، علمت أنه يمارس الحجامة، الحلاق يضع كوبا مقلوبا، داخله عود ثقاب مشتعل، من جرح صغير يتدفق الدم الفاسد، يخف الألم ويروح الصداع، يشكو دائما، في السينما يحلق بصره بالشاشة. لا يخفضه، لا يبدو علي وجهه انفعال حتي عندما يتبادل البطل قبلة ساخنة مع البطلة، ترتفع أصوات المشاهدين بالسباب مطالبين الشجيع أن يكف، أحيانا يكون السب تعبيرا عن الاعجاب، سمعت بعضا منه في تسجيلات نادرة للتلاوة بمناطق بعيدة من الريف.
سينما أوليمبيا أول ما عرفت، ماتزال في موقعها، واجهة أقل حجما مما أعرف عبر ذاكرتي، أفلام المغامرات والجريمة الأجنبية، ما من عربية، منذ متي؟ لا أدري، لم أدخلها منذ أوائل الستينيات، تدهور مستواها، توقفت بعد أن أخبرني زميل طيب السيرة، والده خطاط بأول شارع محمد علي القريب أن المجرمين والنشالين يقصدونها للاختباء ليلا والهروب من المطاردة، وأن عربات الشرطة تتوقف أمامها ويجري ترحيل المتفرجين جماعات، إلي أن يتم الفرز والتدقيق يتعرض المرء لأهوال، والمصيبة لو حررت سابقة في المضابط، يفصل الطالب من مدرسته ويوقف الموظف، وتطارده بقية عمره. في مرحلة متقدمة لا أدري ممن سمعت أن الشواذ يقصدون حفلات الصباح التي يقصدها طلبة المدارس المزوغين من الدروس وثقلها، شيئا فشيئا تحولت السينما إلي كيان مغلق، مريب، كلما مررت بها أتطلع حذرا، مدخلها القذر، سلالمها المتآكلة. في بعض السنوات جري تجديد وتهذيب، لم أعرف قط ملاكها، من يديرها. لكن نظرة إلي المتسكعين أمامها تدفع إلي اسراع الخطو، بمجرد تجاوزها تواتيني لقطة القارب حتي لأهم بالتراجع خشية البلل، لحظة عتيقة ماتزال. مبتوتة عما قبلها أو بعدها. أمعن الترحال مبتعدا، متوجها إلي لحظات تمنيت لو أستعيدها، أثبتها لأفحصها، محاولا الوصول إلي منشأها ومنتهاها، لحظة الولادة واستعادة ما يمر بالروح قبل وبعد الصرخة الأولي، قبل وبعد قص الحبل، الانفصال عن الأم والابتعاد عن سفينة المشيمة، أي صور؟ أي أحاسيس؟ أي درجة من الوعي؟ لابد أن شيئا ما يمثل، يحدث، اللحظة المقابلة عند الخروج من الوجود المحسوس إلي الأبدية، هل سأعي أنني أموت؟ أحقا سينكشف الغطاء ويري البصر الحديد الحياة بكل ما غمض وما وضح فيها خلال لمحة؟ ماذا عن الآني، ما سنقبل عليه؟، حتي لو صح ذلك فلن تتاح الفرصة للإخبار، للإنباء، لن يكون تذكر إنما عتمة، خواء، منذ عامين، بعد اجراء الجراحة الثانية في قلبي بدأت أمر بتجارب الرحيل، أستيقظ ليلا مكتمل الوعي بحلول ما ترقبته وأثار فضولي، أنتقل، ها أنذا أتبدل، يمضي وقت حتي أعي ان الأنفاس متصلة وأنني في حال لا أعرف ما أسميه، لا يمكنني التعرف فيه علي شيء، ربما عدت إلي شرحه فالأمر غامض، ولم اقرأ عن مثله ولم أسمع، ذلك أنني راغب في ذكر دور السينما وما عرفته خلالها وما علق منها عندي أنا المتطلع إلي ما كان مني، المتفحص، المتجاوز، المتأوه لغموض الأمر ولمسه دقائق مني لا أجد لها اسما أو توصيفا، تحدثت عن شكوكو في أوليمبيا، غير أن السينما تثير عندي حضورا غامضا بموقعها ومدخلها ولافتاتها، سواء نظرت إليها عند مروري أمامها، أو من فوق كوبري الأزهر لحظة اجتيازي بالسيارة، جالسا إلي جانب السائق، لابد من نظرة حتي لو كنت غافيا، أحار.. هل أتطلع إلي المكان أم إلي اللحظة المولية بما حوت، جلسة خالي والعمامة علي حجره، والتفاتة أبي إليه بين لحظة وأخري مبديا العناية والدراية والاحاطة بضيفه، الحريص علي ارضائه، ثمة نغم خفي يتردد مصاحبا لاستعادتي اللحيظة، نغم ممتد، يبدأ عند استعادتي ويبقي بعدها، ربما من مقام راست، وربما مقام لا اسم له، إنما أقول ما يخطر لي وما يهمي عليّ، غير ان ما أعرفه وأثق منه كأنتمائي إلي ظلي، وذلك النبض المتردد في أذني نقلا وتعريفا بخفق قلبي، ما أتقنه وأردده مطمئنا أن سينما الفتح بذكرها يبدأ عزف البياتي، وهذا مقام رحب، يتسع للشجن إذا رغبت وللفرح اذا لزم الأمر، هذا موقع السينما في ذاكرتي، أراها مفتوحة، مضيئة، تصدح من خلال شاشتها ابتسامة وصوت وطلة ليلي مراد، ليلي، ليلي مراد، فلأرجئ الحديث عنها شأن من يؤجل الاقبال علي الكنز حتي لا ينقضي المأمول ويتحول إلي ذكري، فلأذكر شيئا عن السينما، تقع في قلب الجمالية، شارع الضببية الواصل بين طريقين متوازيين كفرعي نهر يمضيان بالتوازي، الأول قصبة القاهرة أو الشارع الأعظم أو المعز، أو بين القصرين، الثاني، شارع الجمالية، أو حبس الرحبة، الأول ينتهي عند باب الفتوح إذا جئنا من الجنوب إلي الشمال، يمضي محاذيا للنهر غير القريب والذي كان يجري يوما في عين المكان، يذكر المقريزي في خططه ان القوم أثناء عملية حفر عثروا علي مركب قديم غارق في اليابسة، أرض موضع المياه، المجري يتحرك إلي الغرب، لا يثبت علي حال. في الفسطاط بنيت الكنائس مطلة عليه مباشرة مثل الكرنك وآمون ومعبد الأقصر، ثمة صلة بين الماء والمقدس، ما من طريق في المدن الرئيسية إلا ويمضي محاذيا للنهر الأعظم، لم أعرف مثيلا له في مهابته وصمته وجريانه وقوة دفقه. ينتهي عند ميدان الرميلة أو قرة ميدان أو القلعة أو صلاح الدين اذا سلكناه من الشمال إلي الجنوب، أما الشارع الموازي فممتد من مسجد وضريح مولانا وسيدنا الحسين، تتعدد الأسماء وهو واحد، بيت المال، حبس الرحبة، الجمالية، انتهاء بباب النصر، عند حارة الروم الجوانية، لأنه توجد حارة روم برانية قرب بوابة زويلة فيها الكنائس الأربع المشهورة، كنيسة تادرس الشاطبي، وكنيسة العذراء، ودير للرجال، وآخر مجاور للنساء، عند الحارة ينطلق طريق عرضي.
انه شارع الضببية، أي صانعو الضبة، مغلاق الباب، وفي جهينة حيث ولدت مازال الاسم باقيا، متداولا، خاصة في البيوت القديمة، قفل خشبي تدخل فيه قطعة مثبتة بالعرض، هكذا يحكم الاغلاق، الشارع ممتد فوق جزء من القصر الشرقي الكبير المتبقي منه قطعة جدار، كتف لاغير، يبدو أن النجارين المتخصصين في صناعة الضبة والمفتاح تجاوروا هنا، بقي بعض الصناع ومخازن أخشاب، وبينها وكالة للبصل والثوم، يمتد الشارع بعد عبور المعز إلي ضريح سيدي عبدالوهاب الشعراني، المطل علي ميدان باب الشعرية ومنه يمتد طريق باب البحر حتي ميدان باب الحديد، ويتفرع شارع فاروق الجيش بعد الثورة إلي ميدان العباسية شمالا، والعتبة الخضراء جنوبا، أما الخليج بورسعيد بعد حرب السويس عام ستة وخمسين فيمضي مضطرب المعالم، مشتتا في المكان، جنوبا حتي ضريح السيدة زينب ثم المدبح وصولا إلي معالم الفسطاط، مقامات يلي بعضها بعضا، يؤدي كل منها إلي نغم بعينه وصورة تتعلق بشخص ما، موضع ما، تاه مني، راح عني، تفرق إلي حيث لا أدري. رغم انني مازلت أحفظ رائحة صالة بيت السيدة عطية الخياطة، وقفتها عند أخذها مقاسات أمي، غير أنني لا أعرف موقع البيت الآن، من يشغله، لكنه المرض الذي قضي عليها، أبي أنبأ أمي في أحد أحاديثهما الليلية، أبدت حزن وشجنا: كانت ست ولا كل الستات، يا خسارة..
ما بين وقفتها في الصالة المفروشة بأناقة والمنزل المدثر بالاستقرار ومظاهر النعمة، وما بين حسرة أمي علي رحيلها المبكر، تنبع حيرتي من بقاء الصورتين عالقتين، تماما مثل استعادتي مدخل درب البرابرة حيث المحلات المتخصصة في الأفراح ولوازمها من علب هدايا وحلوي وشموع وأطباق مختلف أحجامها، لماذا مع أني لم أتعامل معه، لم أزر أي موقع فيه، ولم ألج محلا منه، إلا انه من ثوابت ذاكرتي، نفس الأمر ينطبق علي دكان خارالمبو للعصير المجاور لمعرض أحمد حلاوة، الشهير بتقديم المنتجات المصرية والبيع بالتقسيط للموظفين، خارالمبو يوناني، أول من سقي الناس عصير الفواكه ممتزجا بالسيفون الغاز قبل ظهور شركة سباتس التي اشتهرت بزجاجات عصير الليمون، مازال طعمها في فمي، المواضع تتري، لو توقفت عند كل منها لحدت عن القصد، ولكن لابد من وقفة عند الميادين، خاصة العتبة لأنها مؤدية كافة، أكتفي بالقول ان الطريق المطل عليه عصائر خارالمبو. ودكاكين تصليح الساعات القديمة، مؤد إلي سينما رمسيس الواقعة عند أول سوق الرويعي المتخصص في الأقفال بجميع أنواعها وماكينات الخياطة، خاصة ماركة سنجر، يقع توكيلها الرسمي في شارع الأزهر، بعمارة التأمين المجاورة لسوق الحمزاوي، والذي تسكن به طالبة مدرسة الليسيه التي رأيتها علي رصيف ترام رقم تسعة عشر، ممسكة بحقيبتها إلي صدرها اقتداء بمني التي أحبت أحمد في أفلام الخمسينيات، خفق قلبي لها وأسميتها نادية ونسجت علاقة رويتها لصحبي في ذلك الحين، والدها مشلول بعد حزن داهم نال منه أثر وفاة والدتها، علي أثر ذلك أقسم أن يعلمها في أحسن المدارس. ألحقها بليسيه باب اللوق، بعد أن أرقده المرض قررت ألا تستعين بأي غريبة. أن ترعاه وتدرس في نفس الوقت ارضاء له، وثقت بي ودعتني لزيارته. بادلني عطفا بعطف، أوصاني برعايتها اذا جري له المكروه الذي يخشاه، أقسمت له علي المصحف أن أوقف حياتي من أجل نادية، سح دمعي وأنا أضع روحي علي مسمع منه ومرأي منها علي كفي من أجلها.
أتوقف هنا، أريد البقاء في شارع الضببية، لكن التداعيات تأخذني تماما مثل تفرع الحكايات والمرويات شأن الطرق والدروب الواصلة والحارات والأزقة، علي أي حال ربما عدت إلي ما لم أقصه من أمر نادية التي شغلت بها صحبي لعامين أو أكثر، سأشرح أمرها في دفتر الصمت إذا امتد بي الأجل، لعل وعسي.
الفتح
وسط شارع الضببية تقع سينما الفتح، صيفية، لا سقف لها، تبدأ العروض بعد شم النسيم، بعد تبديل الجند ملابسهم من السواد إلي البياض، معظم الرجال والنساء في الزمن المولي لا يبدلون الشتوي إلي الصيفي إلا بعد ظهور العسكر، جيش وشرطة. باللباس الخفيف أو الثقيل، شم النسيم وتغيير ثياب الجند اقرار بتبديل الفصول، يخرج المصريون جميعا من سائر الملل والأجناس للاحتفال بالنسمة الجديدة، المورقة للأزهار، المطهرة للزرع من كل حشر. ايذان بتنفس الوجود، تجدد الحيوات، بلا خطة، يسعون بخطي مختلفة إلي النهر، إلي الكبير، هكذا ينادي القوم خاصة في الجنوب مصدر الحياة، الصادر عن الأزل، الوارد إلي الأبد، لمحتهم علي الشاطئ يتقاطرون، رؤوس عارية، أخري مغطاة بالعمائم، رجال، أطفال، نساء محجبات، منقبات، أخريات حاسرات، شابات يغطين رؤوسهن محاذيات العرف السائد خلال حقبة تدويني هذا، غير أنهن يرتدين قمصانا لصيقة بأجسامهن، وبنطلونات ضيقة تكشف مطالع أفخاذهن، وأخمص بطونهن. أعجب لاقتران هذا بذاك، لكنه مقتضي الحال، تجسد لي شم النسيم في سوهاج وكأنه في الزمن الأول، يفد الفرادي ليصبحوا جماعات علي حافة النهر، خطواتهم نسيمية، ينبضون ولا يسعون، لحظتها أشهدت الحياة بمعناها الأزلي كما أري أدلة الوجود في عيني طفل مولود منذ أسابيع، أيضا في صوت ليلي مراد.
لا، فلأتمهل، مالي أتعجل ذكرها ومن عادتي التمهل عند مقاربة الأجمل والتباطؤ قبل وقوع البصر علي الأنفس أو اتساع الأذنين قبل الاصغاء إلي الأندر؟، لأعد إلي الضببية، حيث أقف متفرقا بين الرغبة في المضي إلي باب النصر، إلي يميني العطوف المرتبط بما قاله أبي عن سكني الناس الشلق الذين يستأجرون للردح وخوض المشاجرات بالنيابة عن البعض، والندب علي من يجهلون وتزيين العروس وتنعيمها وحلق ما يظهر وما يخفي من شعرها ومعالجة ما ينفر ومداراة ما لا يطمئن النظر. لهم في المجالات حالات، ويبدو أن ذلك بطل منذ أزمنة وبقي منه الأثر، في المواجهة بعد عبور بوابة النصر تبدو القرافة، لمقابرها عمارة متميزة، جدرانها وشواهدها وأسقفها من خشب، أراه كالحجب، جري ذلك في باريس، كنت أتفقد كتب الفن في مكتبة أون المجاورة لمقهي الدوماجو والمواجهة للفلور، عندما رأيت في قسم العمارة، مجلدا مستطيل الحجم، من خلال معرفتي الشاحبة بالفرنسية وإلمامي بالصور أدركت أنه حول المنطقة التي تمنحني القرب من الأبدية بتكويناتها وذلك الخشب المحفور في أشكال نادرة، لم أعرف مثيلا له رغم كثرة أسفاري وتفقدي، مؤلفته مصرية، تعرفت عليها فيما بعد، جليلة القاضي، أسهمت بقدر في نشر النص المترجم إلي العربية، ساعدنا علي فهم وضع كنت أهابه كثيرا خاصة في صباي، بقي من ذلك أثر عندي، حتي بعد تلاشي الخوف من الموت والمواضع الخاصة به، في قرافة باب النصر يرقد ابن خلدون والمقريزي وعدد من كبار الصوفية غير ان الموضع اختفي لأسباب شتي، ماذا يعني اختفاء الشاهد. أو هدم البوابة أو السور، يكفي تأكيد أنهم هنا، أعني معرفة أنهم يرقدون في هذا الحيز.
أرغب أيضا المضي إلي باب الفتوح، اذا كان باب النصر مجتازي إلي العدم، فباب الفتوح دربي إلي صميم الحياة، إلي يمين السالك إليه من داخل القاهرة الفاطمية، المعزية. مسجد الحاكم بأمر الله. أمضيت داخله سنة عندما استقرت فوق جزء منه مدرسة السلحدار الاعدادية، وقبل ذلك كان مقرا للآثار الإسلامية، الآن يقيم به البهرة أحفاد الفاطميين شعائر الصلاة، بعد انفاقهم ملايين طائلة علي ترميمه، أو بمعني أدق، إعادة بنائه، سوق الليمون والزيتون والبصل والثوم في الساحة خارجه لا يكف سريان الحياة فيه، يلي البوابة الفريدة في تركيبها وزخارفها وما يرويه الناس عن الضريح الصغير الملاصق للجدار قبل مصراعيها حي الحسينية، من مناطق القاهرة الفريدة، اشتهر في العصور القديمة بسكني الجميلات الغريبات اللواتي لا يعرفهن أحد، لذلك كثرت به دور الفحش، في القرن الأخير عرف بالفتوات والمرجلة بعد أن كتب نجيب محفوظ قصة الفيلم الذي قام ببطولته محمود المليجي، وفريد شوقي، وأدي كلاهما دور فتوات الحسينية، بسرعة سأذكر ما يتصل بالضريح المتواضع. يقال ان رجلا عالما، تقيا، ممن عرفوا الطريق وبدأوا سلوكه، شاع ذكره بين الخلق ولرقته ودماثته أطلقوا عليه »حسن الذوق«، في عصر أحد الأيام ضاق نفسه وتعثر الهواء إلي صدره، انطلق إلي الشارع جريا كأنه يريد الانتهاء إلي شيء. أو اللواذ من خطر يطارده، عند مصراعي البوابة سقط هامدا، قال القوم انه رأي أمرا لذلك يجب دفنه حيث هوي، هكذا واروه الثري إلي جوار الجدار، عندئذ قال القوم: أصلي الذوق ماطلعشي من مصر.
لأتجه إلي سينما الفتح فلو استسلمت للتجوال في الأماكن وزوايا الروح لأطلت وما وفيت. وسط شارع الضببية الواصل بين النهرين الأساسيين في تخطيط القاهرة الفاطمية، المعز والجمالية يقوم مقر السينما. حتي الآن لم أعرف أصحابها، من شرع في بنائها أو تحويل ذلك الفضاء بين البيوت والوكالات إلي سينما، ولماذا صيفية؟ مع ان الأمر لم ينقصه إلا سقف لتعمل طوال العام مثل سينما الكواكب بالدراسة التي افتتحت في الخمسينيات، أعرف من الدكتور حسين فوزي. ونجيب محفوظ بوجود أول سينما في القاهرة، في مواجهة فندق الكلوب المصري، مرتفع متساو ترص فيه المقاعد عصرا في أيام الصيف، انه سطح قاعة السينما التي تقع تحت الأرض، فيها عرضت الأفلام الأولي العام العاشر من القرن. بعد ظهور السينما في الإسكندرية بخمس سنوات. لعلها الوحيدة خارج فرنسا التي عرفت ذلك الفن من الأخوين لومير. كان العرض صامتا، إلي جوار الشاشة بيانو يعزف عليه خواجا. بينما يتابع القوم المناظر والأنغام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.