الاحساس بالحسرة لن يجدي، وربما كان الانفع محاولة ايقاظ ما كنا عليه في الزمن الجميل السبت: - أطاردك منذ يومين.. ألن تراجع موقفك الرافض للمحمول؟! دعنا من الموبايل، فموقفي مبدئي، ولن أحمله ما حييت، المهم ما السبب الذي دعاك لمطاردتي؟ - مسألة مصيرية.. خير ان شاء الله - تدخل جمعية؟! عقدت الدهشة لساني، اصابني خرس مؤقت، ولم أجد ردا مناسبا غير الصمت! - ألو.. ألو.. ألو.. لم أعرف كم كررها صديقي، حتي انفكت عقدة لساني، ثم نطقت وكأني مازلت اتعلم الكلام: نعم.. أكمل كلامك - آسف إن كنت اخطأت بطلبي، أو اثقلت عليك، دعنا اصدقاء أفضل، وانس حكاية الجمعية، فأنا اعرف موقفك من المسألة، لكن الشديد القوي هو الذي دعاني لطرق أبواب الأصدقاء.. سامحني.. انه العشم وليس أكثر. لا تلق بالا لموقفي التاريخي الرافض للجمعيات، ثلاثون عاما من الصداقة تشفع لك عندي، قل بصراحة لماذا تلجأ لفكرة الجمعية وقد كنت تشاطرني ذات الرأي؟ - الثانوية العامة.. الولد والبنت التوءم.. تخيل »خبطتين في الراس توجع« والجمعية مجرد »نواية تسند الزير«. سوف أفكر في الأمر جديا، وأرد عليك غدا، وما فيه الخير يقدمه ربنا. دارت الدنيا أمام عيني، ثم دارت أسئلة عديدة برأسي: إلي متي تظل الثانوية العامة »بعبعاً« في كل بيت تدخله؟ لماذا يستمر وحش الدروس الخصوصية في التهام الجزء الأكبر من ميزانية أي أسرة يكون لها ابن في الثانوية العامة؟ هل تكتفي وزارة التربية والتعليم بالحديث عن الظاهرة وأسبابها؟ وهل يكفي تهديد نجوم الدروس الخصوصية بالفصل من العمل وتوقيع الجزاءات التأديبية أو اغلاق بعض المراكز؟ و.. و..و اسئلة عديدة ترددت في خاطري لم يقطعها سوي رنين جرس التليفون مرة أخري: لم تطمئني علي وصولك.. المهم مدام »....« اتصلت وألحت في الرجاء و... قاطعت زوجتي محاولا كظم غيظي: هل هذا معقول؟ لقد حدثني زوجها منذ دقائق ووعدته بالتفكير، ألا يكفي ذلك؟ جاءني صوتها متوسلا: الناس فيما يشبه المحنة، وهم اصدقاء عمر، ارجوك اقبل، وسوف ادبرها.. مع السلامة. »لعن الله الثانوية العامة التي تريق ماء الوجه«... رددتها ثلاثا، ثم قلت كمن يحدث نفسه: حسنا.. سوف ادخل الجمعية، لكنه قرار لن يحل المشكلة التي تلتهم سنويا أكثر من عشرة مليارات جنيه، الظاهرة لن تختفي بمجرد صدور قرار أو حتي قانون يجرمها، فأبناء كبار المسئولين يعترفون بأن المدرس الخصوصي زائر لا ينقطع عن منازلهم، ما الحل إذن؟ بالمنطق البسيط: أي ظاهرة سلبية تختفي حين تزول أسبابها والعوامل التي تصنعها أو تفرض استمرارها، وحتي يحدث ذلك يجب ألا يقابل المرء استغاثة صديق بالاعراض عن غوثه. لكن.. حتي يتم ضبط كثافة الفصول بالمعدلات التي تسمح بالاستيعاب الجيد، وحتي تنصلح أوضاع المدرس ماديا ومعنويا ليستطيع أداء دوره علي الوجه الأكمل، وحتي تنتهي »حمي« أولياء الأمور لإلحاق الأبناء بما يسمي بكليات القمة، وحتي يتم تعديل آليات التقييم في الامتحانات و..و.. وحتي يحدث كل ذلك لا استطيع أن اخذل صديقي برغم رفضي التاريخي لدخول الجمعيات، فالرجل في مواجهة محنة ثانوية عامة.. وأي محنة، انها مزدوجة!! متاحف »مدرعة«! الاثنين: قضت المحكمة بثلاث سنوات حبساً علي وكيل وزارة الثقافة، واستأنف الرجل الحكم، ثم التقي وزير الثقافة الذي صالحه وعينه مستشارً من الفئة (ا)، ومع ذلك مازال السؤال يتراقص أمام عيني: ماذا كان يحدث لو ان متحف محمد محمود خليل وحرمه يعج بالزائرين منذ يفتح ابوابه حتي يغلقها؟ مع وجود كل الثغرات الأمنية والتسيب والأجهزة المعطلة والكاميرات العمياء وكون رجال أمن الوزارة »مزيكة« في ظل هذه المعطيات، ولكن في وجود عدد كبير من الزوار كان يصعب تدبير السرقة جهارا نهارا. زمان، في ستينيات وسبعينيات قرن مضي، كانت زيارة المتحف بندا أساسيا علي برنامج الرحلات المدرسية، خاصة لابناء الأقاليم، وكان تلاميذ الدقهلية يتعرفون علي تلاميذ مدارس الصعيد في المتاحف، وكانت تعقد صداقات بين طلبة الاسكندرية مع زملاء لهم من محافظات قبلي وبحري، وهم يشاهدون معا عظمة الأجداد في المتحف المصري بالتحرير، أو متحف القلعة، وربما في المتحف الزراعي بالدقي. أحمل ذكريات رائعة للحظات، واشخاص، ومواقف كانت المتاحف مسرحها، بأكثر مما كان يحدث في حديقة الحيوان، أو الأهرامات، أو أي من معالم العاصمة، حينذاك كان ثمة ذائقة للجمال يتم رعايتها وتنميتها في جيلي، توارثناها عن أجيال سبقتنا، وحاولنا نقلها للإخوة الأصغر وللأبناء، لكن ما تشربناه من الآباء، لم نستطع نقله حينما سعينا لتكرار التجربة، ربما بفعل مناخ عام لم يعد للجمال الأصيل فيه نصيب أو حظ في أرواح أجيال تالية لجيلي! يوم سرقة لوحة زهرة الخشخاش لم يتعد زوار المتحف احد عشر شخصا كلهم أجانب! وفي كل مرة كان ضمن برنامج رحلة مدرستي زيارة أحد المتاحف كان الزحام رفيقا لنا في الزيارة، ولم نكن نسمع أيامها عن سرقات لبعض من تاريخنا، وإلا كان علي من يخطط لذلك أن يتسلح بخبرات »جيمس بوند« أو عبقرية »هيتشكوك« حتي يظفر بغنيمته. »الوعي المتحفي« كان أحد مكونات الثقافة البصرية السائدة منذ التحقت بالمدرسة في منتصف ستينيات القرن العشرين ولم يكن جيلي شغوفا بقضاء يوم الرحلة كاملا في احدي مدن الملاهي التي كانت حينذاك شديدة التواضع، ويكفي لزيارتها مجرد ساعة من الزمان. لعل تلك الذكريات تثير شجونا عند عقد مقارنة لا شعورية مع معطيات الواقع الراهن، غير ان الاحساس بالحسرة لن يجدي، وربما كان الانفع محاولة ايقاظ ما كنا عليه في الزمن الجميل، والدعوة إلي بعث الروح من جديد في قيم الانتماء لحضارتنا وتراثنا- عمليا- بتنشيط الرحلات المدرسية للمتاحف علي مدار العام، فالحياة التي تبثها تلك الزيارات الطلابية سوف تساهم في توفير قدر من الحماية التلقائية لذاكرة الوطن ممثلة في الكنوز التي تحضنها متاحفنا. تفعيل الفكرة / الدعوة يحتاج إلي تعاون حقيقي بين عدة وزارات: الثقافة، التربية والتعليم، التعليم العالي، السياحة، وأظن ان ثمة جمعيات أهلية يمكنها المساهمة في الدفع بتعمير المتاحف بالزائرين من الطلبة الذين سوف يشكلون - مع غيرهم- دروعا بشرية تحمي تاريخنا وتراثنا من ايدي الطامعين والعابثين. ثروتنا المتحفية اعظم من أن تتحول إلي مجرد »عهدة« في مبان أقرب إلي المخازن منها للمتاحف العامرة بكل نادر ونفيس ولا ينقصها إلا من يستمتع بها ويحميها. عمو حسن.. المنسي! الثلاثاء: لم يهبه الله اطفالا، فكان أولاد مصر كلها أطفاله.. تربي جيلي علي صوته الودود الحاني، ورغم انه كان يفضل تقديم نفسه ب»عمو حسن« وليس »بابا حسن«، إلا أن عدة أجيال كانت تري فيه أبا روحيا عبر التواصل معه عصر كل يوم في برنامجه الشهير »للصغار فقط« بإذاعة الشرق الاوسط، ولم يكن البرنامج الوحيد الذي يتواصل فيه حسن شمس مع الاطفال لأكثر من عشرين عاما، فكان هناك: »قبل المدرسة«.. »كتب فايزة بالجايزة«.. »طارق في بلاد العجايب«.. ولم يكن ينافس »عمو حسن« خلال هذه المرحلة من عمر جيلي سوي »أبلة فضيلة« في البرنامج العام صباح كل يوم.. وكانت حكاياتهما تمرينا يوميا، صباحا وعصرا علي تنمية خيالنا.. اسلوب »عمو حسن« في الحكي، وهو يلون صوته ليناسب شخصيات كل حكاية، كان الأكثر جذبا لنا مما كنا نشاهده علي شاشة التليفزيون الوليد. ماذا ذكرني ب»عمو حسن«؟ منذ وفاته، وحينما قرأت نعيه، وعلمت بأنه لم ينجب، وان الله عوضه بحب ملايين الاطفال في قري ومدن وشوارع وبيوت مصر كلها، منذ تلك اللحظة اشعر ان له - بالنيابة عن جيلي- دينا واجب الوفاء، وعندما قرأت عن تكريم مهرجان ومؤتمر مسرح الطفل مؤخرا لعدد من نجوم اعلام وثقافة الطفل، تصورت ان »عمو حسن« لابد ان يكون بين المكرمين، صحيح أن من تم تكريمهم كل منهم أهل للحفاوة: ماجد عبدالرازق »بابا ماجد« ونجوي إبراهيم »ماما نجوي«، ومخرج العرائس الكبير صلاح السقا، قبل أن يرحل بقليل والكاتبة فاطمة المعدول، الأربعة جديرون بالتكريم، ولكن لماذا يسقط »عمو حسن« من ذاكرة اللجنة التي اعدت لمهرجان ومؤتمر مخصص لمسرح الطفل؟ ومضة في زمن ضرير لاح عصفور صغير يكاد ريشة يحترق وقت الهجير يحلق بعيدا هاربا من بشر بلا ضمير يمضي متعاليا يشق الأعاصير يغالب الأحزان، لكن قلبه كسير!