علي مدار الأيام القليلة الماضية شهد سعر الدولار بالسوق السوداء قفزة كبيرة جعلته يتجاوز حاجز الثمانية جنيهات للدولار، إلا أن هذه القفزة لم تستمر طويلا لأكثر من يومين، وهو ما جعل التفسير للواقعة علي أنها مضاربة من قبل بعض حائزي الدولار الكبار الذين أرادوا أن يبيعوا عند سعر مرتفع فساعدوا علي خلق السعر المناسب لهم، وللأسف البعض ابتلع الطعم واشتري عند هذا السعر المرتفع، ثم عاد سعر السوق السوداء إلي ما كان عليه قبل هذه القفزة. الأثر السلبي لم يتوقف فقط عند ارتفاع السعر ووجود مضاربة وقتية، ولكن حالة القلق التي انتابت رجال الأعمال، وبخاصة الصغار ومتوسطو الحال منهم، ساورهم قلق كبير حول مدي قدرتهم علي التكيف مع الوضع الجديد، وبخاصة أن معظمهم يحتاج إلي استيراد بعض احتياجات مصانعهم من الخارج، ولابد من شراء الدولار. غياب الرقابة المتوقع في مثل هذه الحالات أن يتم التصرف علي أننا نواجه أزمة، ويتم التعامل بعيدًا عن مفردات التعامل مع الأوضاع الطبيعية، وبلا شك فإن تجار السوق السوداء الكبار في الدولار معروفون، ولا يحتاج الأمر إلي أكثر من القيام بالقبض علي أكبر عدد منهم ووضعهم تحت طائلة العدالة. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، وهو ما زاد من احباط البعض، فالمجتمع يريد الحسم في مثل هذه المسائل، لأن الضرر عام، وينال مجالات كثيرة، حتي لو كان هذا التصرف في إطار كميات أو عمليات صغيرة. وفي ظل غياب الرقابة والمتابعة من قبل الجهات القانونية، فإن دور البنك المركزي كان غائبًا في ظل الأزمة، حيث لم يعلن عن أن هذه الأسعار مبالغ فيها، أو الإعلان عن تبني سياسات من شأنها أن تحد من المضاربة، أو تجفف منابع السوق السوداء للدولار، مثل ضرورة إثبات جهة الحصول علي الدولار عند إيداعه بالبنوك، أو رفض تغطية الاعتمادات المستندية من خارج الجهاز المصرفي، أو القيام بتنظيم عملية تمويل الاعتمادات المستندية من خلال قائمة انتظار حسب أهمية السلع المستوردة. الموارد والاستخدامات البيانات المتاحة عن حجم الاستيراد السلعي بحدود 59 مليار دولار، بينما الموارد الدولارية لمصر تتراوح ما بين 59 مليار دولار أو 60 مليار دولار، ولبيان تفاصيل الرقم الخاص بالموارد الدولارية، نجد أن الصادرات السلعية بحدود 27 مليار، وأن عوائد قناة السويس السنوية بحدود 6 مليارات دولار، وعوائد السياحة بحدود 9 مليارات دولار، وعوائد العاملين بالخارج بحدود 19 مليارا، أي أننا نحصل سنويا علي 61 مليار دولار تقريبا. فمن أين أتي الخلل؟، نعلم أن العامين الماضيين خرجت فيهما الاستثمارات غير المباشرة، من خلال البورصة والسندات الحكومية، وهو ما ساعد علي استنزاف احتياطي النقد الأجنبي، كما كان للسياسة النقدية الخاطئة أثر كبير حيث استنزف جزء آخر من احتياطي النقد الأجنبي في حماية سعر صرف الجنيه. وبالتالي فنحن مطالبون باستعادة بناء احتياطي أجنبي جديد، وفي نفس الوقت الوفاء باحتياجات السوق من الدولار، ولكن في ضوء البيانات التي ذكرناها، فإن عملية التراكم لتكوين احتياطي النقد الأجنبي ستكون ضعيفة في البداية، نظرًا لأن الموارد تكاد تكفي الاستخدامات. إلا أنه مما يزيد من صعوبة تحقيق هذه المعادلة السابقة، سلوك البعض من الاتجاه للدولرة، بتحويل مدخراته من العملة الوطنية، إلي الدولار، من أجل الحفاظ علي قيمة مدخراته، نظرًا لانخفاض سعر العملة الوطنية أمام الدولار، وهو ما خلق طلبا غير حقيقي علي الدولار. إدارة رشيدة في ظل بيانات النصف الأول من عام 2013/2012 فإن عجز ميزان المدفوعات بحدود نصف مليار دولار، في حين كان في الفترة المناظرة من العام الماضي نحو 8 مليارات دولار، وهو ما يعني أننا نتجه لتقليص العجز بميزان المدفوعات بصورة كبيرة. ويدفعنا هذا إلي تبني سياسات نقدية مشجعة علي إدارة رشيدة لمواردنا الدولارية، مثل رفع سعر الفائدة علي العملة الوطنية بصورة تشجع المواطنين علي التخلص من الدولار والعودة للادخار بالعملة الوطنية. كذلك وضع ضوابط لاستخدامات الدولار في الداخل، فلا يسمح باستخدام الدولار في التعاملات المحلية، سواء في دفع رواتب أو رسوم أو مقابل سلع أو خدمات إلا بالعملة المحلية. ونخلص إلي أننا لدينا موارد متوازنة أو متساوية مع استخداماتنا من الدولار، ولكن القضية في عملية الإدارة التي تسمح بغياب الرقابة، أو التأخر في اتخاذ القرار، أو اتباع إجراءات طبيعية في ظل أزمة تتطلب إجراءات استثنائية. كاتب المقال: خبير اقتصادي