كل عام وأنتم بخير .. نعيش هذه الأيام ذكري مولد السيد المسيح عليه السلام، وهي مناسبة لتجنب الحديث في السياسة، ولو لمرة واحدة. في جلسة حوار تطرقت إلي قصة ميلاد السيد المسيح عليه وعلي نبينا السلام، سأل أحدهم باستغراب: كيف يكون ميلاد المسيح في شهر ديسمبر، بينما يشير القرآن الكريم إلي أن السيدة مريم لجأت حين جاءها المخاض إلي جذع نخلة، وناداها الطفل المولود للحظته من تحتها أن تهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب، وهو البلح الطري، والمعروف أن البلح يثمر في أشهر الصيف؟! صاحب السؤال نسي أن قصة السيد المسيح مرتبطة منذ بدايتها بالمعجزات الإلهية التي خرقت النواميس الكونية وخالفت المألوف بين البشر، فلا يجوز أن نقيس شيئًا من أحداثها علي ما يجري في المعتاد.. والخوارق في القصة ممتدة حتي من قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فالسيدة مريم العذراء كانت تتعبد في المحراب، وكانت "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، فكان عليه السلام، وهو نبي يوحي إليه ويؤمن بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، كان يستغرب من وجود الرزق عندها في المحراب. وكانت هذه الأعجوبة تمهيدًا لما سيحدث معها ومع ابنها لاحقًا. لقد خلق الله آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وخلق البشر جميعًا من أب وأم، وشاءت قدرته أن يكون خلق المسيح عليه السلام وفق "الفرضية الرابعة" المتبقية هي الخلق من أم بلا أب، في إشارة إلي قدرته المطلقة. حين حانت لحظة وضع الجنين لجأت مريم إلي جذع نخلة، وحيدة بلا أنيس ولا معين ولا سابق خبرة في التعامل مع حالة الوضع، ولا مع المولود، لكن كانت معها عناية الله، الذي أنطق ابنها ليقول لها "ألا تخافي ولا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا فكلي واشربي وقري عينًا". كيف لفتاة بتول تواجه هذا الموقف الشديد الصعوبة، وتمر بحالة نفسية تتمني معها الموت وأن تكون نسيًا منسيًا؛ وفي حالة جسدية منهكة، كيف لها أن تهز جذع نخلة؟ وحسب القواعد الرياضية يحتاج هز الجذع إلي قوة أكبر بكثير من هز الجزء العلوي من النخلة، وهو أمر لاتقدر عليه عصبة من الرجال، بل ربما من غير الممكن لبشر هز جذع النخلة بالأيدي وحدها. حين كانت مريم بصحتها وهي تتعبد في المحراب كان الرزق يأتيها دون عناء، أما الآن وهي في هذه الحالة فالمطلوب منها أن تبذل مجهودًا! سبحان الله. يقول المفسرون إنه "أمر بتكلف الكسب في الرزق"، وهي لو بقيت تحاول مع جذع النخلة ساعات لما استطاعت تحريكه، ولكن عليها أن تسعي في طلب الرزق وسييسر الله لها أمر الحصول عليه. أما لماذا كان يأتيها رزقها في المحراب من غير تعب، وهي الآن مأمورة بتكلف التكسب فيفسر العلماء ذلك بقولهم إن قلب مريم كان فارغا لله في المحراب، متفرغة للعبادة ولا يشغلها شئ من أمر الدنيا، فكفاها الله مؤونة الرزق، أما بعد أن حملت بعيسي المسيح وولدته، وتعلق قلبها بحبه فقد "وكلها الله إلي كسبها، وردها إلي العادة في التعلق بالأسباب". كان وجود الرُطب في غير أوانه آية، وتساقطه بسبب هزه من يد ضعيفة واهنة آية، وكلام المسيح في المهد آية، كما كانت بعثته إلي بني إسرائيل بالآيات، وكان رفعه آية، وسيكون نزوله آية. لقد جاء إلي الحياة بطريقة معجزة، كما غاب عنها بطريقة معجزة، وسيعود إليها بطريقة معجزة. فالسلام عليه وعلي نبينا محمد وعلي سائر الأنبياء والمرسلين.