لا يخفي علي أحد الوضع المالي الحالي لمصر، وبخاصة وضع الدين العام المحلي الذي تجاوز التريليون جنيه، وما تسبب فيه من أعباء خدمة الدين، ووصول عجز الموازنة إلي نحو 11 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وحسب بيانات الموازنة العامة للدولة، فإن أعباء خدمة الدين العام من فوائد وأقساط تصل لنحو 230 مليار جنيه. ولقد ترتب علي استخدام آلية سد عجز الموازنة عبر الاستدانة بالأذون والسندات، مجموعة من الآثار الاقتصادية السلبية، علي رأسها مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص في الاقتراض من الجهاز المصرفي، وتجفيف منابع السيولة بالجهاز المصري، مما دفع البنك المركزي المصري لتخفيض احتياطيات البنوك لديه لتصل إلي 10 ٪ بعد أن كانت بحدود 14 ٪ قبل عام 2011. فضلا عن أن هذه الآلية شجعت إدارات الائتمان بالبنوك علي عدم تحمل المخاطر، والركون إلي إقراض الحكومة، لضمان العائد علي القروض دون وجود أية مخاطر، ولذلك تراجعت المساهمات البنكية في تمويل المشروعات الإنتاجية والخدمية، فتجاوز معدل البطالة في مصر حاجز 12 ٪. وبالاطلاع علي بيانات تقرير البنك المركزي المصري لعام 0102/1102 (ص 49)، وجد أن مدخرات القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام بالجهاز المصرفي، تصل إلي 145 مليار جنيه (86 مليار عملات محلية + 59 مليار جنيه قيمة عملات أجنبية)، وذلك في نهاية يونيو 2011. والمعمول به الآن أن أموال القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام يتم إيداعها بالجهاز المصرفي بسعر فائدة لا يتجاوز 10 ٪، بينما يقوم الجهاز المصرفي باستثمار هذه الأموال أو جزء منها في أذون وسندات الحكومة بسعر لا يقل عن 14 ٪ أو 15 ٪. والمستفيد هنا من هذه الوساطة هو الجهاز المصرفي بالفارق بين سعر الفائدة علي الودائع الحكومية وسعر التوظيف في سندات وأذون الخزانة. ومن أجل التخفيف من أعباء خدمة الدين العام، من خلال توظيف الودائع الحكومية، فنقترح أن تقوم المؤسسات الحكومية ومؤسسات قطاع الأعمال العام، بتوظيف ودائعها مباشرة في أذون وسندات الخزانة. دون وساطة الجهاز المصرفي، ولدينا جهاز مالي ضخم في المؤسسات الحكومية يستطيع تنفيذ هذا الأمر. علي أن تكون الفوائد المستحقة علي الودائع الحكومية في أذون وسندات الخزانة في نفس الحدود التي كانت تحصل عليها لسعر الفائدة من الجهاز المصرفي، أو في أحسن التقديرات لا تزيد علي نصف بالمائة. وبطبيعة الحال فإن الأمر لا يخلو من اعتراضات، ولكنها محلولة إذا ما استهدفنا الصالح العام، فننظر إلي الودائع الحكومية وطبيعة التزاماتها الزمنية، فالودائع قصيرة الأجل يمكن توظيفها في الأذون، والودائع طويلة الأجل يتم استخدامها في السندات. وقد يتطلب الأمر التوظيف الجزئي للودائع الحكومية في إطار هذا المقترح وليكن في حدود الثلث أي نحو 50 مليار جنيه. أو حسب ما يقتضيه مقام الاقتراض لتغطية عجز الموازنة. فكل جنيه يدفع في خدمة الدين يمثل خصمًا من التمويل المتاح لخدمات التعليم والصحة والدعم والمرافق العامة. . وثمة اعتراض آخر وهو أن تتعلل البنوك بأنه ليس لديها سيولة كافية لرد الودائع للمؤسسات الحكومية وقطاع الأعمال العام، والحل يكمن في تنازل الجهاز المصرفي عن حصة مما يملكه من أذون وسندات حكومية لصالح المؤسسات الحكومية. علي أن تتم تسوية الفائدة علي هذا القدر من الأذون في إطار سعر الفائدة الجديد.. ولابد أن نذكر أنه إذا اقتضي الأمر أن نعيد التفكير في أن تكون مساهمة الودائع الحكومية في الأذون والسندات الحكومية بمعدلات أقل مما هو عليه الوضع في الجهاز المصرفي. وليس ذلك عقابًا للمؤسسات الحكومية ولكنه يأتي في إطار انخفاض تكلفة تمويل عجز الموازنة. وأنه ليس من صالح الحكومة أن تقرض نفسها عبر وسيط وهو الجهاز المصرفي ليحصل علي أرباح وهمية. والملاحظ الأخير، هو أننا نفكر في إطار النموذج التمويلي الرأسمالي، الذي يعتمد علي آلية الدين، وهو ما يفرضه علينا الواقع، ومتطلبات الأجل القصير. ولكن علينا أن ننتقل إلي رحابة آلية المشاركة، لتكون تكلفة التمويل في إطار قاعدة "الغنم بالغرم".