جمال الغيطانى السابع والعشرون، شارع عبدالخالق ثروت.. السابع عشر من يناير أرقام ترتبط بيحيي حقي، الأول عنوان البناية التي اعتدت أن أقابله فيها في مطلع الستينيات، والثاني يوم رحيله، وعندما يحل يناير أستعيد يحيي حقي، أستعيده بقراءة إحدي كتبه وتذوق أسلوبه الخاص، وبالطبع ترد علي ذاكرتي لحظات متفرقة من صلتي به، وأمكنة مرتبطة بأزمنة. ذلك المبني الذي مازال قائماً حتي الآن في وسط المدينة القديمة، إذ أصبح للقاهرة أكثر من مركز في الربع قرن الأخير، يقع عند ناصيتي شارع عبدالخالق ثروت، وشريف باشا، في الطابق السادس يقع مقر مجلة »المجلة« التي كانت تصدرها وزارة الثقافة في زمن ثروت عكاشة الأب الروحي لوزراء الثقافة العرب كما وصفه محمد بن عيسي وزير ثقافة المغرب سابقاً، وزير الخارجية حالياً كان شعار المجلة »سجل الثقافة الرفيعة« وكان محتواها ترجمة دقيقة لتلك الجملة التي تبدو بسيطة في مظهرها، عميقة في جوهرها، تعاقب علي رئاسة تحريرها ثلاثة من أكبر المثقفين المبدعين، الدكتور حسين فوزي والدكتور علي الراعي والأستاذ يحيي حقي رحمهم الله أجمعين. لماذا تقفز إلي ذاكرتي تلك البناية إذا ما أردت استعادة يحيي حقي؟ ربما لأنني رأيته فيها أول مرة، كان يسكن في مصر الجديدة، الضاحية الشمالية الهادئة، لكنه كان يتردد ثلاثة أيام علي مقر المجلة، ربما لأنني قابلته أول مرة في مكتبه هذا، والإنسان يذكر دائماً المرات الأولي، تماماً مثل المسافر، يعلق بذاكرته الساعات الأولي للرحيل، واليوم الأول للوصول إلي أرض بعيدة عن محله وموطنه، ثم تتداخل الأيام، لم أعرف يحيي حقي عندما كان دبلوماسياً في وزارة الخارجية لأنه دخل السلك الدبلوماسي قبل أن أولد، وانتقل إلي مصلحة الفنون التابعة لوزارة الثقافة سنة أربعة وخمسين، أو عندما كان وكيلاً للنيابة في صعيد مصر نهاية العشرينيات بعد تخرجه في كلية الحقوق، لقد خرج من النيابة قبل أن أولد بعشر سنوات أو أكثر، عرفته عندما كان رئيساً لتحرير المجلة، آخر ما تقلده من مناصب. هكذا رأيته قصدته للنشر، كنت ومازلت بعد في بداية الطريق، وكان النشر في المجلة أمراً ليس بالهين، خاصة بالنسبة لشاب في مقتبل العمر، كانت منبراً رفيعاً بحق، ماتزال أعدادها تعد مراجع لا يمكن الاستغناء عنها لما حوته من دراسات ونصوص قيمة، تماماً مثل مجلة »الرسالة« ومجلة »الثقافة« و»الهلال« و»المقتطف« و»العصور« وغيرها، كانت المجلة تقع في الطابق السادس، الشقق مؤجرة لوزارة الثقافة، في السادس بدأت هيئة النشر التي تحولت إلي دار الكاتب العربي، ثم أصبحت الهيئة المصرية العامة للكتاب حتي الآن، إدارة المجلة كانت تشغل غرفة واحدة في نهاية ممر قصير، مكتب عتيق وصوان داخله مخطوطات معدة للنشر، أمام المكتب مقعدان متواجهان، فوق أحدهما يقعد يحيي حقي، لم أره جالساً إلي المكتب قط، دائماً أمامه كأنه ضيف شخصي خفي لا يُري، كان قصير القامة، كبير الدماغ، أبيض البشرة، مشرب بحمرة، ملامح تنم عن أصوله التركية، دائماً يميل إلي الأمام كأنه يهم بقول شيء ما، أو إلقاء سؤال، أو اتخاذ وضع إصغاء، بل إنني إذ أستعيد ملامحه أراه دهشاً كطفل، متسائلاً مستفسراً باستمرار كأنه لا يعلم، مع أنه من أوسع المثقفين الذين عرفتهم ثقافة، ورقة، وإنسانية، صوته خفيض، ألفاظه منتقاة بعناية، بدقة، ينتمي إلي ما عُرف في تاريخ الأدب المصري بالمدرسة الحديثة التي ضمت أدباء مجددين في العشرينيات، منهم أحمد خيري سعيد والأخوان شحاتة عبيد وعيسي عبيد وحسين فوزي ويحيي حقي، هؤلاء يمثلون تطوراً مهماً في حركة الأدب الحديث في مصر، أول ما قرأت ليحيي حقي، مجموعة »دماء وطين« وفي تقديري أنها من أجمل المجموعات القصصية في الأدب العمري، والمذهل تلك الطاقة التجديدية في قصصها رغم صدورها في نهاية الثلاثينيات، تبدو قصة »أبو فودة« و»البوسطجي« التي تحولت إلي فيلم شهير كأنها مفردات في قاموس القصة القصيرة العالمية، وحتي الآن أستعيد من خلال ذاكرتي المجهدة الموقف الذي يصور فيه يحيي حقي لقاء أبو فودة الخارج من السجن بعد سنوات بالمرأة، أدق خلجاته، وانهياره الذكوري المصحوب بالشخير أمام الأنوثة الفياضة المنتظرة، أما البوسطجي فمن أجمل ما قرأت في حياتي، ولعل أساتذة الأدب المقارن يتوقفون أمامها، تلك القصة التي كتبت قبل قصة جارثيا ماركيز الفاتنة »ليس لدي الكولونيل من يكاتبه«، ظهرت البوسطجي قبل قصة ماركيز بثلاثة عقود علي الأقل، بالتأكيد لم يقرأ ماركيز »البوسطجي« ولكنها الموهبة الأدبية الفذة التي تلمس جوهر المشاعر والمواقف الإنسانية هنا وهناك، فيعبر كل بطريقته وطبقاً لرؤيته عن ذلك الجوهر الواحد. الكتاب الثاني ليحيي حقي »خليها علي الله« ويتضمن ما يقترب من يوميات أو سيرة ذاتية، ليحيي حقي عندما عمل في منفلوط بصعيد مصر، في هذا الكتاب تبدو عينه اللاقطة، المرهفة، التي يمكنها رؤية ما لا يراه الآخرون، ما يقع عند الحد بين الظل والأصل، من هذا الكتاب تعلمت كيف أري الواقع، كيف أصقل نظرتي إلي الأمور التي تبدو عادية، فيما بعد عندما نقلت قسراً إلي الصعيد لأبدأ عملي لأول مرة بعيداً عن أهلي وعن مكاني وركني في القاهرة القديمة، مضيت إلي يحيي حقي في مكتبه، قلت له مبتسماً: »نقلوني إلي الصعيد.. إنني أتبع خطاك..«.. نصحني بأن أقبل علي التجربة بروح راضية، وأفق مفتوح، وألا أتعمد الرؤية، بل أمر علي الواقع بتلقائية، بدون هدف مسبق، عندما وصلت إلي سمالوط، المدينة الصغيرة، الهادئة، وعشت فيها لمدة سنة في ظروف صعبة، ربما أفضلها فيما بعد.. لم أنقطع عن مراسلته، ولم يهمل الرد قط، كنت مازلت صغيراً، في العشرين من عمري، ما نشرته مجرد قصص قصيرة في مجلات محدودة، ومع ذلك كان يرسل إليّ خطابات مطولة ينتقد فيها برفق هين بعض ما أرسله إليه، للأسف فقدت معظم هذه الخطابات عند اعتقالي عام ستة وستين لأسباب سياسية، ولم يتبق إلا خطاب واحد فقط مازلت أحتفظ به. منمنماته كان يحيي حقي يكتب خطاباته كما يكتب رسائله، علي ورق صحف، وبحبر جاف، وخط دقيق منمنم، كنت أعتبره مثل الجواهرجي الذي يختار كلماته بعناية ويعيد صياغتها بدقة ورهافة تتناسب مع المعدن الثمين، يحيي حقي فنان اللفظ، يختاره بعناية، يوفق ما بين الفصحي والعامية في براعة نادرة، وكثيراً ما حضرت استفساراته عن بعض الألفاظ، كان يسأل الثقاة ممن يترددون عليه ومنهم الشيخ محمود شاكر الذي كان من كتاب المجلة، وكان يجيد الإصغاء وممن أذكر لقائي بهم عنده مناضل مصري ضد الاحتلال البريطاني، كان مريضاً بالقلب وقت رؤيتي له، أصغيت إليه يحدث يحيي حقي عن موقف مر به، وكان يحيي حقي يبدي تعجبه، أو ملاحظاته، وأذكر صوته عندما قال »أي تراجيديا؟«، قرأت فيما بعد لهذا المناضل كتاباً جميلاً بعنوان »الكفاح السري ضد الانجليز« ثم رحل عن عالمنا بعد لقائي به بسنوات قليلة، رحم الله وسيم خالد. خليها علي الله كان يحيي حقي مقلاً في إنتاجه القصصي والروائي، لكن لا توجد قصة واحدة من إنتاجه يمكن إغفالها، أهم ما كتبه من وجهة نظري مجموعة »دماء وطين« و»الفراش الشاغر« و»خليها علي الله«، وأشهر ما عرفه الناس »قنديل أم هاشم«، كان يمكن أن تتوقف معرفتنا بإنتاجه القليل عند هذا الحد لولا صديق مخلص له، أقدم علي عمل جليل، أقصد فؤاد دوارة الناقد المعروف رحمه الله. كان لدي يحيي حقي موقفاً لم أعرف له مثيلاً بين الكتاب، إذ كان يكتب في الصحافة غير المعروفة، صحفاً ومجلات محدودة التوزيع، مثل »التعاون« و»الموظفون« وكان يفضل الكتابة في جريدة المساء، وعلي مكتب المرحوم عبدالفتاح الجمل رأيت خطه لأول مرة، عرضوا عليه أن يكتب في صحف أكثر توزيعاً وشهرة، لكنه اعتذر بأدبه الجم، وسألته يوماً عن السبب فقال لي إنه عندما يكتب في صحف غير ذائعة يكون أكثر حرية، كان ممكناً لكتاباته تلك أن تمضي إلي المجهول إذ أنها متناثرة، متباعدة، لكن فؤاد دوارة أقدم بدأب عظيم وجهد يندر بذله علي جمعها من المجهول، ثم تصنيفها وتبويبها، وهكذا ظهر سبعة وعشرون مجلداً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في الزمن الذي تولاها فيه صلاح عبدالصبور، وللأسف نفدت هذه الطبعة ولم يعد طبعها، قدم فؤاد دوارة كنزاً أدبياً حقيقياً، المقالات في شتي مجالات الحياة، في العمارة، الموسيقي، الفن التشكيلي، التاريخ، المجتمع، الناس، مكتوبة بلغة يحيي حقي، بنفس لغة الجواهرجي الماهر، لقد جعلنا فؤاد دوارة نكتشف هذا الأديب العظيم مرة أخري بعد أن أنقذ تراثه. صحبته مرة إلي القاهرة القديمة، كان ذلك في مطلع السبعينيات، بعد حرب أكتوبر، أذكر توقفه المفاجئ، وقوله: »تصور يا غيطاني، العلم الإسرائيلي سيمر مرفوعاً علي السفن من قناة السويس..« كان من النادر أن يتحدث في السياسة، ولم يكتب كثيراً في شئونها، ولا أدري كم من آراء مشابهة رحل طاوياً معها صمته. أذكر لازمته الشهيرة إذ ينهي سؤاله أو تعليقه »أفندم..« قرب رحيله أعلن توقفه عن الكتابة، قال إنه أصبح كالشجرة التي لا يمكنها أن تثمر.. أهدي مكتبته إلي جامعة المنيا، وبقيت الأرفف فارغة، المرة التي زرته فيها قبل رحيله صحبني إلي الأرفف وراح يشير إلي أماكن الكتب المفارقة.. »هنا كان كتاب الجبرتي، وهنا كان...« لا أستعيد كتاباته إلا وكأني أكتشفه من جديد، لا أذكره إلا ويقفز إلي ذهني عناوين أحد كتبه في النقد الأدبي، العنوان هو »عطر الأحباب«، يحيي حقي هو عطر الأحباب نفسه.