لعله أشهر جسر في الأدب العالمي، ذلك الجسر الممتد فوق نهر صغير بمنطقة البوسنة المسلمة، نهر درينا، كان يمكن أن يظل مجهولاً، لا يعرفه أحد لولا تلك الرواية الرائعة التي كتبها ايفو اندريتش وحصل بها علي جائزة نوبل عام واحد وستين من القرن الماضي. كم رواية قرأتها منذ أن بدأت في السابعة من عمري؟ لا أدري، ولكن بعد نصف قرن من القراءة المستمرة، الدءوبة، نمت بيني وبين عدد من النصوص علاقة حميمة، هكذا أصبح في مكتبتي ركن أطلق عليه »الخلاصة«، يضم تلك الأعمال التي توطدت علاقتي بها عبر العمر، وأصبحت أعود إليها من حين إلي آخر، وأحياناً أئتنس بها إذ أتطلع إليها فقط. مازلت أحتفظ بالنسخة الأولي، أول طبعة للرواية، ترجمة الدكتور سامي الدروبي، أصدرها عام اثنين وستين، أي بعد حصول الأديب علي الجائزة بسنة واحدة، ترجمها عن الفرنسية، الرواية مكتوبة أصلاً باللغة الصربوكرواتية، وهي لغة صعبة لم يكن هناك من يجيدها في مصر خلال ذلك الوقت إلا قلة. الطبعة الأولي صدرت عن الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، كان عدد صفحاتها يصل إلي الخمسمائة من القطع الكبير، وكان ثمنها تسعة وعشرين قرشاً، مبلغ ليس بالهين في ذلك الوقت وبالنسبة لطالب ثانوي، لكنني دبرته واقتنيتها، لقد صدرت طبعات عديدة منها فيما تلا ذلك، لكنني أوثر هذه الطبعة رغم اقتنائي للطبعات الأخري، كانت الرواية بالنسبة لي اكتشافاً رائعاً. كان للرواية شكل معين مستقر في الواقع الأدبي، تكرسه الروايات المترجمة، بدءاً من رواية القرن التاسع عشر، الديكنزية، الدستويفسكية، التولستوية، حتي الرواية الحديثة التي كنا نقرأ عنها ولا نقرأها، هكذا تأثر بعض الأدباء ببوليسيس لجويس ولم يطالعوها إلا بعد سنوات عديدة عندما ترجمها الدكتور طه محمود طه في السبعينيات، نفر يسير جداً الذي قرأها بالانجليزية، في النتاج العربي، كانت هناك إبداعات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيي حقي، تلك هي الكتابات الروائية التي توقفت أمامها وتمعنت، لكنني كنت أشعر أن ما أقرأه لا يتلاقي تماماً مع احتياجاتي، مع الموضوعات التي أريد أن أطرقها، لا أذكر أين قرأت لناقد أوروبي مقالا مترجما حول الصوت الذي يجب أن يظل خافتاً للروائي، يعني الروائي يجب أن يتواري، وكنت أفكر بسذاجة: كيف أتواري وأنا المؤلف؟، كيف أختفي عن القارئ وكل كلمة يطالعها هو يعرف أنها من تأليف فلان؟! طبعاً فيما بعد وجدت الحل في الكتابة العربية القديمة، في مرونة النص الذي يمكن أن يبدأ بخطة، ويتحول إلي حكاية، ثم تدخل عليه خطبة، أو يتوقف لسرد أمثلة. وكانت »جسر علي نهر درينا« رواية تشجعه علي طرق دروب مغايرة لما هو شائع وقتئذ، كيف؟ المؤلف لابد من تعريف بالمؤلف، هنا أعود إلي نسختي العتيقة، التي اصفر ورقها، أتوقف أمام مقدمة الدكتور سامي الدروبي، هذا المترجم العظيم والإنسان الواقع كما عرفته من خلال صحبة المقربين، ولد ايفو اندريتش بمدينة ترافنك سنة 2981، كان ينتمي إلي أسرة رقيقة الحال، كاثوليكية، توفي والده وهو في الثانية من عمره، فلجأت أمه إلي أهل لها بمدينة فيشجراد، وهي مدينة صغيرة جميلة علي نهر درينا، تلقي فيها العلم ثم انتقل إلي سراييفو، وفي هذه المدن الثلاث من البوسنة تدور أحداث رواياته الثلاث التي ترجمت إلي العربية وصدر اثنتان منها في روايات الهلال »جسر علي نهر درينا« و»الآنسة« أما »وقائع مدينة ترافنك« فهي رواية ضخمة لحسن حظي أنني عثرت علي نسخة منها صدفة علي سور الأزبكية في أواخر الستينيات، مطبوعة في دمشق، ترجمة الدكتور سامي الدروبي أيضاً، وفي حدود علمي لم تطبع مرة أخري، ولذلك أضع النسخة إلي جانب الجسر والآنسة في مكان أمين بمكتبتي، واصل اندريتش دراسته الجامعية وأعد رسالة الدكتوراة عن »الحياة الفكرية في البوسنة والهرسك في عهد السيطرة التركية«، ثم عمل في السلك الدبلوماسي،بدأ نشر قصائده وقصصه القصيرة عام 8191، وكلها تدور حول الحياة في البوسنة، وأهلها من مسلمين ومسيحيين ويهود وطوائف شتي، كثير من الأماكن التي قرأت أسماءها في رواياته صارت شهيرة خلال الحرب المدمرة والمذابح المروعة التي ارتكبت ضد المسلمين، ومنها مدينة ترافنك وموستار وفيشجراد، ولشدة تعلقي بالرواية قمت بزيارة يوغسلافيا عام خمسة وثمانين في رحلة سياحية، وكانت الرحلات تنظم إلي شاطئ الاورياتيكي، وصدمت لأنني سألت كثيرين ممن قابلتهم عن اندريتش فلم يظهر معرفته أحد، ثم أدركت فيما بعد أن مدينة دوبروفينك ومدينة سبيلتا تقعان في كرواتيا، منهما انطلقت في رحلة سياحية داخلية إلي موستار، وسراييفو، كان الركاب معظمهم أوروبيين، وكان المترجم المرافق يتحدث الانجليزية، وفي الطريق كان يصف المعالم التي نمر بها، وكنت مشغولاً بتأمل أجمل ما يمكن أن يراه الإنسان من مشاهد الطبيعة، عندما انتبهت إلي حديثه عن المسلمين الذي سنراهم وسخريته منهم، وتظاهرت أنني مستغرق حتي أصغي إلي ما يقال، وكان بشعاً، أدركت أن هذا الجمال يخفي إمكانيات حريق هائل، وعند مغادرتي الأوتوبيس، قلت للمرشد إنني مسلم، وإنني اكتشفت مدي التعصب خلف هذا الجمال الذي تتميز به البلاد، وإنني لن أسكت عن تلك الروح العنصرية الكريهة، راح يعتذر، وأفرط في الاعتذار، لم يكن النظام الاشتراكي قد انهار بعد تماماً، غير أن عيناي أصبحتا أكثر قدرة علي رؤية ملامح الكارثة القادمة، كثير من الآثار العتيقة ومنها جسر موستار الشهير المعلق نسفه الصرب، وكثير من الأماكن الإسلامية الأثرية التي وصفها اندريتش ودونها اليونسكو كجزء من التراث الإنساني العالمي. لا يمكن اعتبار أندريتش صربياً متعصباً، إنما يمكن القول إنه كان يري الإنسان في رؤية شاملة قوامها إمكانية التعايش بين الأعراق والأديان المختلفة، في روايته سنجد المسلم والمسيحي واليهودي، كل هؤلاء يعبرون الجسر من هنا إلي هناك ومن هناك إلي هنا. الجسر في سنة 1751 ميلادية أمر الوزير الأكبر محمد باشا سوكولوفتش المولود بقرية صغيرة قرب فيشجراد أن يبدأ المهندسون في بناء الجسر، تبدأ الرواية بوصف المنطقة، وكأنها كتاب للجغرافيا، التضاريس، منحنيات النهر، ملامحه، خاصة عند النقطة التي سيقام عندها الجسر، ويروي اندريتش عشرات الحكايات الصغيرة المرتبطة بالمكان، مثل قصة الطفلين الرضيعين اللذين كان لابد من وضعهما داخل أحد الأعمدة الحجرية وإشفاق المهندس عليهما وتركه فتحتين صغيرتين لتتمكن أمهما من إرضاعهما، وكذلك قصة الولي المسلم الذي تصدي بمفرده لجيش من الكفرة وتمكن من صدهم عن اجتياز الجسر، حكايات الرواية عديدة، كذلك شخصياتها، وفي إحدي قراءاتي الإحدي عشرة قررت أن أفهرس الحكايات والشخصيات، كان ذلك عام تسعة وستين، غير أن المشهد الرهيب الذي لا يمكن لقارئ الرواية أن ينساه، وصف المؤلف لخوزقة راديسلاف الفلاح الذي كان يخرب إنشاءات الجسر، سيظل هذا المشهد من أكثر المشاهد في الأدب العالمي تأثيراً ومأساوية، من الشخصيات الأخري التي بقيت هي: لوتيكا اليهودية مديرة فندق الجسر، يصفها اندريتش في سطور قليلة وبطريقة فريدة تذكرني بأوصاف التراجم العربية القديمة: »كانت لوتيكا تطرد في أدب وظُرف أولئك الذين أسرفوا في الشراب أو خسروا كل ما يملكون، وتستقبل الزبائن الجدد الذين لم يسكروا بعد والذين هم في شوق شديد إلي الخمرة واللعب، لم يكن يعرف أحد، ولم يكن يتساءل أحد متي ترتاح هذه المرأة، ومتي تنام، ومتي تأكل، ومتي تجد الوقت الذي تنفقه في ارتداء ملابسها والعناية بجمالها..«. قدرة علي الوصف المركز العميق، في سطور قليلة تمثل الشخصية بكل تاريخها، ربما تكون شخصية عابرة، أو يمتد حضورها زمناً أطول، المهم علاقتها بالجسر، هنا تصبح الرواية سجلاً للتاريخ الذي لا يمكن أن يراه إلا الروائي، التاريخ الداخلي للبشر، وقراءة دقيقة لخريطة المصائر الإنسانية، وتأمل شعري فلسفي لإيقاع الزمن الذي بدأ معه الجسر وانتهي أيضاً. إنها الرواية المفتوحة علي جميع الآفاق، المستوعبة للزمن والمكان معاً، لذلك كانت »جسر علي نهر درينا« نقطة تحول في مساري. من كتاب الكاو: من يسافر كثيراً يعرف قليلاً من يمكث يعرف أكثر