من بين المباديء الإسلامية الراشدة والتي فيها سعادة الفرد والمجتمع، وسلوك المنهج الأمثل، مبدأ الشوري في الإسلام، وقد أمر الله سبحانه وتعالي رسوله »صلي الله عليه وسلم« به، ووجهه إلي ان يستشير من معه، مع انه نبي ورسول ومعصوم ويوحي إليه، وما ذلك إلا لأهمية الشوري في الإسلام وأنها فريضة. قال الله تعالي -مخاطبا رسوله صلي الله عليه وسلم- » فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ« آل عمران »951«. ولأهمية الشوري في الإسلام ذكرها القرآن الكريم بين فريضة الصلاة وهي عبادة بدنية وبين فريضة الانفاق وهي عبادة مالية، حيث قال الله تعالي: »وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ« سورة الشوري »83«. وقد طبق الرسول »صلي الله عليه وسلم« الشوري في حياته، حيث استشار أصحابه في الخروج في غزوة بدر الكبري فتكلم كبار الصحابة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما اشار عليه المهاجرون والانصار بالخروج للغزوة. واستشار الرسول »صلي الله عليه وسلم« في الاسري أبا بكر، فقال: »قومك وعشيرتك، فخل سبيلهم«، فاستشار عمر فقال: اقتلهم. ففداهم رسول الله »صلي الله عليه وسلم« فأنزل الله عز وجل: »مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَي حَتَّي يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ« إلي آخر الآيات من سورة الانفال »76«. فلقي النبي »صلي الله عليه وسلم« عمر فقال: »كاد ان يصيبنا في خلافك بلاء« رواه الحاكم. كما استشار الرسول »صلي الله عليه وسلم« الخباب بن المنذر في الموقع الذي ينزل الجيش فيه يوم غزوة بدر الكبري وأخذ بمشورته. وقد بين الإسلام ان المستشار أمين علي مشورته فعليه ان يتحري الحق والصواب، وأن يخلص في مشورته ففي الحديث: »المستشار مؤتمن« رواه أبوداود والترمذي. ومن المعلوم ان الله تعالي أيد رسوله »صلي الله عليه وسلم« وأوحي إليه وعصمه، فلماذا كان الأمر بالشوري؟ والجواب: أنه »صلي الله عليه وسلم« إذا استشار أهل الشوري مع منزلته ومكانته ومع تأييد الله له وعصمته فهذا يدل علي ان الشوري فريضة في الإسلام، وأن واجب المسلمين أن يطبقوا الشوري، اقتداء برسولهم »صلي الله عليه وسلم« الذي أمروا ان يقتدوا به وأنه لهم الأسوة الحسنة: »لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا«، فإذا كان الرسول »صلي الله عليه وسلم مع مكانته السامية، ومنزلته العالية، يستشير فإن غيره من باب أولي. وفي استشارة الرسول »صلي الله عليه وسلم« لأصحابه ما يشعرهم بأهمية رأيهم ومكانتهم فيزدادون بهذا محبة وطاعة وانقيادا وتشجيعا في الاقبال علي ما يريده منهم. وجاء الأمر الرباني للرسول »صلي الله عليه وسلم« بالشوري ».. وشاورهم في الأمر«، لأن ما حدث في غزوة أحد كان علي غير ما يحبون نتيجة لما أشاروا عليه بالخروج من المدينة لحرب العدو، وكان -أول الأمر- يري عدم الخروج وان يحاربهم داخل المدينة: لقلة عدد المسلمين، فلما خرجوا واخذ برأي الذين رأوا الخروج، وأصاب المسلمين ما أصابهم فلو لم يستشرهم لتوهم البعض أن في نفسه شيئا بسبب مشاورتهم، فجاء الأمر الالهي ان يشاورهم ليتضح لهم انه ليس في نفسه شيء منهم، وان الشوري لها أهميتها العظمي في الإسلام. وإلي جانب ما سبق فإن الذين يستشارون يبذلون أقصي ما في وسعهم في الاجتهاد وبيان أصلح الأمور وأفضلها. وفي كون الشوري ملزمة أم لا.. يري الامام ابن تيمية: انه إذا استشارهم الإمام، وبيّن بعضهم له ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسول الله »صلي الله عليه وسلم« أو اجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا؟ قال الله تعالي: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ« سورة النساء آية »95«. وإن تنازعوا فينبغي ان يؤخذ بالرأي الأقرب للكتاب والسنة ويعمل به، لقوله تعالي: »فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً« سورة النساء »95«. وأما إذا كانت آراء الذين يشيرون ليس لها سند من الكتاب أو السنة أو الاجماع فعلي ولي الأمر ان يأخذ الرأي الأقرب إلي الكتاب والسنة: وإذا اختار ولي الأمر رأيا يري فيه مصلحة الأمة فعلي الأمة اتباعه. وهناك من يري من العلماء ان الشوري ملزمة لولي الأمر، ومنهم من يري انها غير ملزمة. وللشوري في الإسلام خصائص تجعلها مصونة عن أي انحراف أو ميل، لانها مشروطة بعدم المخالفة للكتاب أو السنة، علي عكس الديمقراطية التي لا تري للكتب السماوية مرجعية بل تري ان الأمة مصدر السلطات. - تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين للشوري: لقد طبق أبوبكر الصديق رضي الله عنه مبدأ الشوري، فكان إذا ورد عليه حكم في كتاب الله تعالي، فإن وجد فيه ما يقضي به قضي به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله »صلي الله عليه وسلم« فإن وجد فيها ما يقضي به قضي به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم ان رسول الله »صلي الله عليه وسلم« قضي فيه بقضاء؟ فربما قام اليه القوم فيقولون: قضي بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي »صلي الله عليه وسلم« جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم علي شيء قضي به. وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه. ومن نماذج الشوري عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما رواه البخاري ومسلم بالسند عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلي الشام حتي إذا كان بسرغ »وهي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز«. لقيه امراء الأجناد-أبوعبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه ان الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم ان الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر، ولا نري ان نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله »صلي الله عليه وسلم«، ولا نري ان نقدمهم علي هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نري ان ترجع بالناس ولا تقدمهم علي هذا الوباء، فنادي عمر في الناس: اني مصبح علي ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبوعبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلي قدر الله، أرأيت ان كان لك ابل هبطت واديا له عدوتان احداهما خصيبة والاخري جدبة أليس ان رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: ان عندي في هذا علما، سمعت رسول الله »صلي الله عليه وسلم« يقول: »إذا سمعتم به بأرض فلا تقوموا عليها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف« رواه البخاري ومسلم.