ثم كان ان جاءت حرب اكتوبر علي العكس تماما من إرادة القوتين العظميين ، بعدها كان ان اسفرت هذه الحرب عن نتائج حاسمة تخالف كل التوقعات والحسابات الاستراتيجية العالمية وذلك عندما انتهت بنصر مصري اجمعت كل الاطراف علي انه المستحيل بعينه وتجسد اهم ما خرجنا به من هذه الحرب الخالدة، في استرداد كبريائنا القومي الذي بدونه لا يمكن لاي دولة، او اي مجتمع، ان يستمر في البقاء! وسط هذه المعطيات استقرت الشخصية المصرية، واستعادت اصالتها الحضارية والتاريخية، فكان لابد ان يحدث زلزال آخر معلنا عن تغير كل الاحوال والسوابق، وشكل المستقبل بالنسبة للمنطقة باسرها وكان ان جاء هذا التحول ممثلا في اعلان الرئيس السادات لمبادرة السلام!! وعلي العكس مما يعتقد الجميع من ان الحمائم للسلام والصقور للحرب، فان الواقع يقول ويؤكد ان الصقور وحدها هي القادرة ان حربا، أو سلما، اما الحمائم فهي مجرد كائنات زينة بلا دور حاسم في مثل هذه القرارات المصيرية! وهكذا جاء اول نداء للسلام في الشرق الاوسط علي لسان الجنرال موشي ديان، وذلك بعد ان اجتاحت جيوش اسرائيل اراضي ثلاث دول عربية خلال حرب يونيو 67، وقتها كان ديان في ذروة مجده واسرع لزيارة حائط المبكي بمدينة القدس حيث اخرج ورقة من جيبه كتب عليها الامنية التي يطلبها من الله تعالي.. امنية نصها »اللهم اجعل السلام من نصيب هذا الجزء من العالم«. حسنا كان هذا مطلب اسرائيل بعد نصرها الخاطف في يونيو 67، اما في اكتوبر 73 فقد اختلفت المواقع والادوار وانتقلت مقومات النصر ومتطلباته الي صفوف المصريين المنتصرين! وهنا وقف الرئيس السادات مزهوا شامخا في ذروة انتصاراته العسكرية مناديا بالسلام علي مرأي ومسمع من العالم باكمله دون خوف او وجل فهكذا يفعل المنتصرون!! وهنا قد يعتقد البعض ان هذا اتجاه غريب من جنرالات الحرب وقادتها، ولكن الواقع يقول لنا ان الحرب الحديثة باهوالها وحجم الدمار الذي تخلفه جعلت من العسكريين المحترفين اشد الناس كراهية للحرب، واكثرهم رغبة وتقديرا للسلام.. ولكن فقط في اطار الحفاظ علي هامات المقاتلين عالية وعدم المساس بالكبرياء الذاتي الذي هو نواة الكبرياء القومي للدولة والامة باسرها. وحتي لحظة استشهاد السادات في ذكري انتصاره الفريد والاول والوحيد في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي - يومذاك كان السلام ما زال املا وحلما وبمجيء الرئيس مبارك: صقر صقور المنطقة بأكملها واكثر قادتها احترافا.. بمجيء هذا الجنرال المحترف والمتمرس كان ان انتقل السلام من حيز الامال والتطلعات والاحلام البعيدة، الي واقع صلب ملموس استمر ما يقرب من ثلاثين عاما سكنت خلالها المدافع تماما، بينما انطلقت الحناجر والألسنة الي اعلي نبرة ممكنة، واكثرها صخبا امتزج في بعض الاحيان بممارسات الدهماء والضعفاء... ثم شيئا فشيئا - ولو ان هذا »الشيء« استغرق ما يزيد علي عشرين عاما- شيئا فشيئا سلك الجميع نفس المسار الذي سلكته مصر وحدها بعد انتصارها الحاسم في اكتوبر.. ذات المسار الذي لم يجرؤ علي الولوج في دربه غير مصر مدفوعة بما أنجزته سواعد الابناء... مسار يفرض علي المنطقة باسرها سلاما شاملا وعادلا لابد ان ينتهي بقبول ورضوخ الدولة العبرية، وكانت بداية هذا القبول الحتمي هو تخليها تماما عن احلام »دولة اسرائيل الكبري«، اما ما دون ذلك فهو مجرد محاولات اخيرة.. يائسة وعابثة!