د. على السمان أولاً: عمر سليمان علامة في تاريخ مصر حينما انتشر خبر وفاة نائب رئيس الجمهورية اللواء عمر سليمان عبقري الأمن القومي في مصر يوم الجمعة الماضي شعرت وكأن زلزالاً قد وقع في عقول وقلوب كل الوطنيين في هذا البلد، وأثارت وفاته في مستشفي كليفلاند بالولايات المتحدة الكثير من القلق والأقاويل مما حول الحزن إلي غضب وقلق. ولم يهدأ تليفوني من اتصالات من أجيال متعاقبة تعلن لي تساؤلها أو غضبها، منهم من عرف وعايش عمر سليمان- أكبر رجل صامت في تاريخ مصر- وما لفت نظري بصفة خاصة هو رد فعل كثير من الشباب وكأنهم قلقون علي مستقبلهم ومستقبل بلدهم، ورغم أن الرجل حين وافته المنية لم يكن في يده أي منصب أو مسئولية إلا أن الناس كانوا يشعرون أن مجرد وجوده لا سيما بعد التأييد الجارف لشعب مصر له في حملته الرئاسية كان بمثابة "احتياطي استراتيجي" قد يحميهم ذات يوم. وعندما ذهبت إلي الجنازة التقيت مع ثلاثة أجيال ممن بنوا صرح مؤسسة الأمن القومي منذ أن تولاها العملاق حافظ إسماعيل بعد نكسة 67 والمعروف بالعقلية المنظمة وتقديس الضبط والربط الذي ورثه عن المؤسسة العسكرية، إلي الإنسان والقائد كمال حسن علي ذي القلب الكبير، ثم جاء دور عمر سليمان كرئيس لهذا الجهاز العريق وظلت علاقتي وطيدة معه علي مدي عشرين عاماً والتقينا كثيراً في باريس. وباتصالاتي الدولية عرفت كيف أن هذا الرجل نال احترام زملائه أولاً من المسئولين عن رئاسة الأمن القومي في بلادهم والذين من خلالهم توثقت علاقته بعد ذلك بكثير من القيادات السياسية في الشرق والغرب. وشعرت وقيادات الأمن القومي بجانبي في انتظار أذان العصر وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة علي عمر سليمان أننا كنا نستعرض التاريخ العريق لمؤسسة الأمن القومي. لقد أفني عمر سليمان عمره في خدمة الوطن وأمنه القومي، أما هؤلاء السذج الذين كانوا يحسبونه علي النظام السابق فإنهم كانوا يجهلون أنه كان في خدمة دولة بمؤسساتها وليس نظاماً بعينه، وليس سراً علي العالمين ببواطن الأمور كيف أنه خلال سنوات طويلة تصدي رجال النظام السابق لاختياره نائباً لرئيس الجمهورية خوفاً علي مستقبل التوريث ولم يختره رئيس الدولة نائباً له إلا بعد انفجار الثورة وبداية غرق السفينة ودفع الرجل الثمن غالياً. يا رفيق وصديق العمر.. شعرت وأنا أسمع الآلاف حولك يهتفون "الله أكبر" وكأن شعب مصر قد استفتي عليك يوم وفاتك. عتاب شديد للزميل فهمي هويدي صدمت وأنا أقرأ مقال الأستاذ فهمي هويدي بعنوان "شهادة إسرائيل له" بذلك الهجوم الظالم علي عمر سليمان بعد وفاته، وفوجئت أن كل الكلمات تنطوي علي عدم فهم لطبيعة وظيفة رئيس الأمن القومي وضرورة إقامته لعلاقات متميزة مع جميع الأطراف بمن فيهم الإسرائيليين والفلسطينيون. وأقول له أنه حينما سيكتب التاريخ كتابة أمينة وموضوعية ستفاجأ أن كل فقرة من مقالك كانت تمثل خطأ في المعلومات، ثم خطأ في التقييم، وبالتالي خطأ في الحكم. أما الملايين التي بكت علي عمر سليمان فمن الأكيد أن لها رأيا بالغ القسوة علي مقالك.. اتق الله يا أستاذ هويدي. ثانياً: أنور عبد الملك الكاتب والمفكر كان رفيق طريق علي مدي أكثر من ثلاثون عاماً في باريس، وكان عالماً، وكان وطنياً ونموذجاً لمن يحملون هموم الوطن طوال الوقت... وعلم في فرنسا كثير من الأجيال من خلال مركز الأبحاث الفرنسي ونال احترامهم. زلن أنسي كيف أن صديقي جان بيير شيفينمان وزير الدفاع السابق الاشتراكي كان يكرر لنا دائماً تقديره وإعجابه بالمفكر أنور عبد الملك. واصطدم أنور بالمؤسسة العسكرية بعد ثورة 23 يوليو 1952 واعتقل قبل أن يلجأ إلي فرنسا، ومع ذلك ظل معجباً فكراً وكتابةً بجيش مصر منذ محمد علي إلي العصر الحديث. ويشهد الله أنه كان وطنياً أولاً ثم يساري التوجه. ومع ذلك لقد عاني من رجال اليسار أكثر مما عاني من المحافظين. وحزنت عندما ذهبت إلي كنيسة المرعشلي يوم وفاته لأجد عدداً محدوداً من النخبة التي لديها ذاكرة تاريخ مصر المعاصر. لنتكاتف سوياً ليتعلم شبابنا تاريخ رجال الفكر والنضال في العقود الماضية.