إذا التقي رجلان في غرفة خالية، فاعلم أن الموجودين في واقع المكان هم ستة أشخاص، ذلك أن هناك كل رجل كما يري نفسه، وكل رجل كما يراه الآخر، وكل رجل كما هو بالفعل. وإذا لم تكن الفكرة قد وصلتك فدعنا نبدأ من جديد. فأنت لست واحداً بل ثلاثة، هكذا دفعة واحدة، أنت كما تري نفسك وأنت كما يراك الناس وأنت كما أنت بالفعل. هكذا بالنسبة لك وبالنسبة لنا جميعاً، إلا من رحم ربي. وحتي الأنبياء لم يسلموا من أثر هذه المقولة، فقد رآهم الناس علي غير ما هم عليه وعلي غير ما أرادهم الله ولذا فلكل منهم قصة وحكاية ومعاناة وتجربة وفتح وهداية. ولماذا نذهب بعيداً، دعنا نذكرك كم مرة ساقتك الظروف إلي معرفة شخص تكونت له صورة في مخيلتك وإذا بمرور الوقت واعتياد التعامل معه تتغير هذه الصورة حتي تقترب من حقيقته، بينما يظل هو مصراً علي أن يري نفسه في صورة أخري وشخص آخر. إن ملابسات الحياة وظروفها وتعقيدات الدنيا والمواقف والخيارات تكشف عن معادن الناس وترفع القناع عن كثير من الوجوه والشخصيات والأصدقاء والمعارف وحتي عن أنفسنا، فأنت إذا ما صادفتك المشاكل والنوازل تكتشف في ذاتك شخصاً آخر، ربما أقوي وأصلب وأنبل، وربما أضعف وأقل وأصغر، وعندها تواجه نفسك في مرآة الحياة وتعرف حقيقتك، عليك ألا تكابر أو تراوغ فهكذا هم أولو العزم يكابدون الدنيا ولا يراوغون أنفسهم أو يخاتلون الناس، بينما نحن جميعاً نظل في حيرة محكومين بما نريده لأنفسنا لا بما نحن عليه بالفعل، إنها الصورة الذهنية التي كوناها وعشناها وتوحدنا فيها حتي تلبستنا كقناع لا نري شخوصنا إلا من ورائه، قناع نخادع به أنفسنا بينما تنفذ نظرات الناس من خلاله فتري ذلك الوجه الذي ربما لا نعرفه وربما هو الوجه الذي لا يعرف الناس حقيقته أيضاً. إذن عليك أن تكون نفسك، وعليك أن تعرف أنك بمجرد أن تولد لا يمكنك الاختباء، فكن صادقاً مع نفسك ومع الآخرين. ثانياً لا تقل إلا ما تفعل، ولا تفعل إلا ما تؤمن به، وأعلم أنك إذا قايضت ضميرك أو قناعاتك أو عقلك بمال الدنيا، فأنت رخيص. ثالثاً إذا خفت فاصمت ولا تقل، وإذا قلت فلا تخف. رابعاً: كن رجلاً ولا تتبع خطواتي، وسواء قالها فولتير أو جوتة أو نيتشة فاعمل بها عن قناعة، استفد من تجاربي وتجارب غيري وأفكارنا وافعل ما يميزك أنت ويرضيك ويناسبك، ولا تشغلن نفسك بصغائر الأمور فتغيب عنك كبارها، وليكن همك عملك، ومكانتك موقعك الذي تعطيه جهدك وفكرك واهتمامك وإخلاصك. حقق مشيئة الله في وجودك فأنت مستخلف في الأرض حتي تعمرها، فكن من أولئك الذين يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا، فلا تغيب دورك ولا يغيب عنك، ازرع واحصد وانتج واقرأ وافهم وتعلم وانظر وفكر واعرف والزم واسجد واقترب. هكذا كان حديثي مع شباب الجامعة، وهكذا كانت إجاباتي علي أسئلتهم التواقة للعلم والمعرفة والرؤية وتلمس الطريق. حكيت لهم كيف أن كثيرين منا فرطوا وأفرطوا فتركوا أنفسهم نهباً لمن يلعب في عقولهم ويشكل أفكارهم ويكون قناعاتهم وانحيازاتهم ويلون آراءهم ويصنع لهم معتقداتهم ويزين لهم الخطأ والخطيئة فإذا هم وراءه في غيهم سادرون. وهو أمر أصاب حياتنا العامة حتي أضحي ظاهرة يتعايش معها الناس وكأنها قدر لا راد لقضائه. وانظر حولك فإذا معظم الناس يتحدثون بغير علم ويفتون بغير معرفة وتتشكل قناعاتهم وأفكارهم ورؤاهم من خلال التليفزيون والأحاديث المنقولة والمذاعة والمرسلة والمتواترة وقد تحولت في مقولات البعض إلي حقائق يسرون بها للبعض وكأنهم من العالمين ببواطن الأمور، يحدثونك وهماً وهم مصدقون فينقلون عن فلان وعلان دون تأصيل أو تدقيق أوتحقيق. واجر هذه التجربة بنفسك، اطرح أمراً عاماً علي مجموعة من ذوي المراكز المرموقة والمتعلمين، ثم اطرحه علي عدد آخر من بسطاء الناس وغير المتعلمين، ويالهول ما سوف تسمع وما سوف تري. ستجد أن الكلام هنا وهناك لا يختلف في معناه ومضمونه وهشاشة مبناه ومفهومه، حتي المفردات تكاد تكون واحدة أو قريبة من بعضها وبنفس مسافة كل متحدث من الآخر في تعليمه ودرجته العلمية أو الوظيفية، ولكن كلها أو معظمها أحاديث مرسلة وآراء معلبة وخواء فكري وتسطيح وكأننا غفونا ذات ليلة فأتي شياطين الجن والإنس يجرفون عقولنا ويسفهون أفكارنا، وإذا بنا نصحو برءوس حليقة خاوية من التفكير والتدبر ونفوس فارغة ملساء تتدحرج عليها الأشياء والأحداث فلا تكاد تترك أثراً، ذلك لأننا توقفنا عن القراءة والتفكير وآثرنا التبلد والتظاهر والتقليد. ستري ذلك بأم عينك وستري أيضاً كم الغرور والتعالي والتكبر مصحوباً بالجهل والادعاء والتخلف. وعليك أن تلاحظ كيف يري كل منهم نفسه وكيف تراه أنت وكذا كيف عساهم يرونه الآخرون. قد تسوقك الأقدار لمجلس مع بعض المثقفين والنابهين، وعندها سوف تسمع حواراً ذا مذاق آخر، فيه زخرف القول والسرد وموفور الحكايا ومعسول الكلام، لكن شتان ما بين القول وبين الفعل، ناهيك عن شاسع الهوة بين ما يسمرون به في جلساتهم الخاصة وما يعلنونه في المحافل والمنابر والندوات والفضائيات. وهنا لن تجد أياً منهم ثلاثة كما وجدت نفسك، بل ستجده خمسة أوعشرة وربما أكثر من ذلك أو أقل، لكنك ابداً لن تجد أحدهم أقل من اثنين ذلك أن قناعتهم " ذو الوجهين منافق، ذو الوجه الواحد ميت" كما قال عباس محمود العقاد في روايته "سارة". وهكذا، فمعظم الناس هم أناس آخرون، آراؤهم آراء أشخاص آخرين، حياتهم تقليد وشخصياتهم اقتباس، كما قال الكاتب المسرحي والروائي الأيرلندي أوسكار وايلد في رائعته "صورة دوريان جراي". ولقد قلت لك هذا الكلام من قبل ولعلك بما تراه حولك قد تصدقني اليوم.