نشرت الصحف والمجلات المصرية خلال النصف الثاني من شهر سبتمبر 0102 عدة مقالات وتعليقات حول كلمة الانبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية المصرية، واخيرا استمعت إلي تصريح قداسة البابا شنودة حول ابداء الاعتذار عما سببه ما نسب للانبا بيشوي من ألم للمسلمين وانه علي استعداد لبحث ذلك وانه ربما أخذ كلامه بغير معناه أو في غير موضعه ونحو ذلك من التصريح الذي استمعت اليه عبر الاذاعة البريطانية BBC وهذا الموقف من قداسته يمثل منتهي الشجاعة الادبية وعين الحكمة، واتمني ان يكون ثمة نهاية لهذا الحادث المؤسف للغاية، ولكن لابد من نقطة نظام تتعلق بالوضع الديمغرافي والطائفي في مصر والعلاقة بينهما والمفاهيم المتصلة بذلك. وتتمثل نقطة النظام هذه في عدة ملاحظات جوهرية وبعضها عن معايشة شخصية للواقع المصري وكالآتي. الملاحظة الاولي: وهي انني أدين في بداية تعليمي لمدرسة ملحقة بإحدي كنائس قرية مجاورة لقريتي في محافظة اسيوط مركز ابنوب بها اكثرية مسيحية وكانت وما تزال زراعاتنا وبيوتنا متجاورة مسلمين ومسيحيين يسميهم أهالي الصعيد »بالنصاري« وهي مستمدة من القرآن الكريم ومن الانجيل الذي اشار للبلدة التي ينسب اليها السيد المسيح عليه السلام، وفي المدرسة الاعدادي كان استاذي المفضل والاثير هو الاستاذ سعد ملك قزمان رحمه الله وكانت المدرسة تسمي بالمدرسة الخيرية الاسلامية ومعظم اساتذتها من المسيحيين، ولم يكن ثمة تفرقة بين اي من الطلاب مسيحيين ومسلمين ولابين الاساتذة، كما كان نفس الشئ في المدرسة الملحقة بالكنيسة في المرحلة الابتدائية، وتعلمت الدين الاسلامي بتشجيع وحث مستمر من المدرس المسيحي في المدرسة الابتدائية اذ عندما كان يذهب الاخوة المسيحيون لاداء الصلاة في الكنيسة كنا نحن المسلمين في المدرسة قلة فشجعونا علي البقاء في الفصل وقراءة القرآن الكريم، وفي الجامعة وفي عملي الدبلوماسي كان اكثر اصدقائي واقربهم إلي نفسي الاخوة المسيحيون، لما وصفهم به القرآن الكريم، بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون، والرهبنة بالنسبة لي ليست في الكنيسة أو المسجد، وإنما في اداء الواجب ومراعاة الضمير والامانة في العمل والاخلاص للوطن، وقد تميز المسيحيون المصريون الذين تعاملت معهم أو اكثرهم بهذه السمات الطيبة ما عدا قلة بخلاف كثير من المسلمين الذين تعاملت معهم فكانت القلة من اصحاب الضمائر الحية. لا أدري هل هي محض صدفة أم ان هناك اسبابا اجتماعية تدعو لذلك، لانني استبعد الاسباب الدينية فالاسلام والمسيحية واليهودية بل وكل الاديان السماوية وغير السماوية تدعو للفضائل العشر المسماة بالوصايا العشر في الكتاب المقدس ووردت بنفس مضمونها في القرآن الكريم والتي منها اداء الامانة والصدق وجعل الله هو الرقيب علي العمل وعدم الزني وعدم السرقة ورد الامانات ونحو ذلك من الفضائل والقيم الانسانية النبيلة. وأخيرا فإنه في فترة عضويتي في المجلس القومي لحقوق الانسان عرفت كثيرا من معاناة الاخوة المسيحيين، وكنت اعرفها من قبل، ولكن زاد طرحها امامي وأمام زملاء المجلس، ولم يتردد اي عضو في المجلس عن مساندة موقف الاخوة المسيحيين بالنسبة لبناء وترميم الكنائس والدعوة لاصدار قانون موحد لدور العبادة ونقد وإدانة الاعمال الطائفية رغم ان البعض كان يدرك ان بعضا من تلك الشكاوي فيها قدر كبير من المبالغة والتضخم، وانا شخصيا اعرف بعض مصادر ذلك خلال معايشتي وعملي في الولاياتالمتحدة من انشطة بعض اقباط المهجر. الملاحظة الثانية: وهي انني تشرفت باستقبال قداسة البابا شنودة في بعثة مصر بنيويورك عندما كنت قائما بالاعمال للوفد واقمت حفلا علي شرفه في البعثة- وللعلم الحفلات تقام ليس علي حساب الدولة وانما علي حساب الدبلوماسي بما في ذلك حفلات العيد الوطني- وتحدثت في الجمع الحضور مرحبا به وعرضت علي قداسته مرافقتي له في جولاته الدينية في مدينة نيوجيرسي التي بها جالية مصرية اغلبها من اقباط مصر، ولكنه اعتذر بلباقة فقدرت رغبته واحترمتها رغم حرصي وتطلعي لأن أرافقه كريما له باعتباره رمزا من رموز مصر، وانا ممثل لها في تلك المنطقة. وكتبت عدة مقالات صحفية في مناسبات عدة اشيد بالرئيس مبارك وقراره الحكيم باعتبار 7 يناير عطلة رسمية للدولة تكريما للاخوة المسيحيين الاقباط »رغم تحفظي علي كلمة الاقباط لان سكان مصر مسلمين ومسيحيين كلهم أو جميعهم من الاقباط ما عدا القبائل العربية أو الجاليات المسيحية التي وفدت علي مصر عبر العصور واصبحت جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري، ومن ثم فإن احتكار تعبير قبطي للمسيحيين المصريين احتكار في غير موضعه العلمي، ولكنني استعمله من قبيل استعمال ما هو دارج ومألوف. الملاحظة الثالثة: إنني كتبت منتقدا فكر بعض الجماعات الاسلامية وبعض المسلمين الذين- تحت شعار الاسلام- وهو بريء من فكرهم وسلوكهم-يرددون قضايا غير جوهرية مثل أهل الكتاب والردة وأهل الذمة والجزية ونشرت ذلك في كتابي الاسلام والمسلمون في القرن الحادي والعشرين »الصادر من الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة« وينتقد ما اطلق عليه البعض اسم »الحكومة الاسلامية« والنظام الإسلامي واوضحت بالادلة انه ليس هناك نظام سياسي باسم اسلامي، وانما هناك قيم ومباديء ومفاهيم اسلامية يتفق عليها مع الاديان الاخري، وان النظام السياسي هو نظام مدني وأعجبني في هذا الصدد مقولات فضيلة الامام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي وفضيلة الدكتور عبدالمعطي بيومي في كتابه عن »الاسلام والدولة المدنية«. الملاحظة الرابعة: وهنا رجائي لقداسة البابا وللأخوة المسيحيين المصريين وهي النصح للجميع بعدم الاهتمام بصغائر الأمور والتركيز علي جوهرها وهذه النصيحة والرجاء أيضا أو جهة لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب وعلماء الأزهر الشريف وأن يتعامل الجميع بصدق ومودة صادقة بعيدا عن مظاهر جلسات الصفاء والاستمتاع بالضيافة في المناسبة الدينية والاجتماعية وأن يتصدوا بحق في كنائسهم ومساجدهم لدعاة الطائفية والفتنة، وأن يدرك ويتصرف الجميع علي أن مصر للمصريين مسلمين ومسيحيين، وان يتخلي الأخوة المسيحيون عن اعتبار انفسهم كأقباط أنهم المصريون الوحيدون، فالمسلمون لهم حق في مصر كما للمسيحيين، والمسيحيون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وتصور أن المسلمين جاءوا ضيوفا أو غزاة، هو تصور خاطئ علميا، فالدول في الماضي قامت علي الغزوات والفتوحات ثم استقر مفهوم رفض وتحريم الغزو ومفهوم الدولة الوطنية، وحكام انجلترا مثلا لم يكونوا من أصول انجليزية، والمسيحية في مصر كان عمرها ستة قرون عندما جاء الاسلام الذي مضي عليه أكثر من أربعة عشر قرنا، وجاء عمرو بن العاص ليحرر مصر من الرومان الذين لم يكونوا مصريين ورحب به بطريرك الاسكندرية والمسيحيون لما ذاقوه من عذاب ومعاناة تحت حكم الرومان وعصر الشهداء المسيحي القبطي المصري لم يكن علي ايدي المسلمين وانما علي ايدي الرومان المسيحيين، وصلب السيد المسيح لم يكن علي أيدي المسلمين، وانما علي أيدي الرومان بايعاز ووشاية من اليهود في فلسطين، وترحيب المصريين بالقديس مرقص وإقامته كنيسة بالاسكندرية عام 07 ميلادية هو نفس ترحيبهم بعمرو بن العاص لأن مصر تاريخيا بها السماحة الدينية، ومفهوم الدين عميق الجذور في شخصيتها. وإنني في كثير من كتاباتي اكرر التأكيد علي ان مصر وطن لنا جميعا واستشهد كثيرا بمقولة قداسة البابا شنودة مصر وطن يعيش فينا وليست وطنا نعيش فيه.. هذا هو عين البلاغة وعين الحكمة، وسلوك علماء الأزهر الأفاضل عبر العصور كان نموذجا للتسامح الاسلامي، كما كان سلوك باباوات المسيحيين المصريين، هذا لا يعني عدم وجود خلافات لاهوتية بين الطرفين بل هي قائمة ولن تحل بخطاب نيافة الانبا بيشوي ولا بكلمات من قداسة البابا او من فضيلة شيخ الأزهر فهذا ترث لا يتغير والتشكيك فيه لن يؤدي سوي للفتنة الطائفية وتدمير الأوطان، وأول من سيعاني في هذه الحالة هم الأقلية كما حدث في تدمير العراق وتدمير لبنان بالفتن الطائفية حتي اضطر معظم مسيحيا العراق ولبنان للهجرة، ومسيحيو مصر هذا وطنهم ومن هاجر لظروف خاصة به من المسلمين أو المسيحيين إلي أمريكا أو كندا أو استراليا أو غيرها فله ذلك، ومن حقه، ولكن لا ينبغي استخدام الدين في بلاد المهجر للادعاء بالتمييز الديني ضد أحد لغرض حصولهم علي الجنسية بسرعة وهذا ربما كان هدفا نبيلا ولكن بأسلوب رخيص. الملاحظة الخامسة: إن مصر غنية بأبنائها من المسيحيين والمسلمين وهم في غالبيتهم اقباط أي إلي مصر ينتسبون وكلمة قبط، كما هو معروف جاءت من الاغريق بمعني الارض السوداء للإشارة لمصر صاحبة النهر والخصب والنماء، ولابد من إعادة تصحيح الخطاب الديني الاسلامي والمسيحي لبعث مفهوم الوطنية والانتماء للوطن، وأنا اقول بصراحة ليس هناك تمييز في مصر ضد المسيحيين وانما هناك مطالب لم يتم الاستجابة لها، وهناك ربما بعض الحقوق مهضومة ومن حقهم كمواطنين ان يطالبوا بها ولكن مفهوم »تثبيت العقيدة« الذي عقد في ظله المؤتمر والذي اثارت كلمة الأنبا بيشوي الضجة التي تقترب من احداث فتنة ليست مفاجأة وليس خطأ في الصياغة أو سوء الفهم، وإنما البعض يقصدها كما ان بعض المسلمين ايضا يستخدمون عبارة أهل الذمة، وهذا خطأ، إن هذه مصطلحات عفا عليها الزمن، واليوم لا نتحدث سوي عن الوطن، والمسلم الذي له مظلمة مثل المسيحي الذي له مظلمة فليذهب للدولة وليس للمسجد أو الكنيسة، وعلي رجال الدين أداء دورهم الديني والابتعاد عن السياسة سواء مسلمين أو مسيحيين، وإلا فأن الفتنة ستطل علينا وسنكون جميعا خاسرين، ونعاني جميعا من كوارثها لعن الله الفتنة ومن أحياها ومن دفع إليها بالقول أو العمل. الملاحظة السادسة: إن إسلام شخص قبطي لن يفيد المسلمين ولن يقويهم واعتناق شخص مسلم للمسيحية أو القبطية لن يفيد الأقباط، وإن حكومة مصر ورجال أمنها ورجال الدين فيها عليهم مسئولية تنفيذ ما وافق عليه النبي محمد »ص« في صلح الحديبية عندما اتفق مع مشركي مكة ان من جاء منهم مسلما يرده المسلمون، ومن ذهب من المسلمين كافرا إليهم متخليا عن إسلامه فلا يردونه، لأن المسلم ضعيف الايمان لا قيمة له والمسيحي ضعيف الايمان لا فائدة منه، واعتناق الدين هو مسألة شخصية، ولكن نظرا للحساسيات السياسية والدينية في بلادنا التي ما تزال متخلفة ثقافيا وفكريا وسياسيا فإن هذا سوف يحدث فتنة نحن في غني عنها مسلمين واقباط، وحسب معلوماتي ان بعض من جاء من الاقباط واسلم مثل زوجة القسيس الذي تردد اسمه في الشهور الأخيرة إعادتها الشرطة للكنيسة، وهذا عين الصواب والحكمة، كذلك دعوات التبشير الديني في الأماكن والاحياء الفقيرة المسلمة لابد ان تتوقف فهي ضد تعاليم السيد المسيح وضد تعاليم الاسلام فهي استغلال حاجة الفقير والمحتاج ولا تعكس القناعة الذاتية للشخص، وعلي الاخوة المبشرين بالمسيحية أو الداعين لنشر الاسلام ان ينشروا مبادئه وقيمه بين اتباعه، ولو كان هناك مسيحي واحد جيد الإيمان فهو خير من مليون من ضعاف النفوس، والمسلم القوي خير واحب إلي الله من المسلم الضعيف، الملايين من المسلمين ضعفاء الايمان والفكر والثقافة فلا يفيدهم اضافة مسيحي للاسلام، وهذا عبث وهزل في موضوع الجد ألا وهو سلامة الوطن وأمنه وليذهب دعاة الفتنة الطائفية في بلاد المهجر وأذنابهم في وطننا إلي جحورهم وليموتوا بغيظهم بفضل وحدة الهلال والصليب كما حدث في ثورة 9191 ولابد للدولة ان تحرص علي مبدأ المواطنة وعدم التمييز ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين، بل أقول بين النساء والرجال أو بين أهالي المدن وأهالي الريف أو بين ابناء سيناء أو ابناء الصعيد وغيرهم. المواطنة الحقة هي المساواة وهي تكافؤ الفرص، ومعيار الكفاءة والمؤهلات هي الأساس، وأخيرا أتمني عدم المبالغة في تقدير عدد الاقباط المسيحيين في مصر والاعتماد علي المصادر الرسمية وكما أشرت العبرة ليست بالعدد وإنما بالكيفية، وعلي الله قصد السبيل.