محمد الشماع كأنما هو قدر لنا أن نتلعثم وان نتخبط في تشكيل بيئة سياسية حضارية، بعد ان نجحنا في هدم حائط الاستبداد الذي وقف سدا منيعا يحول بين الحركة الجماهيرية وبين التعبير عن نفسها، فما ان حصلنا بفضل ثورة 25 يناير علي حق تشكيل الاحزاب السياسية حتي قفز الي الساحة جماعات الاسلام السياسي لكي تخلط ما هو ديني وما هو دنيوي وما هو سياسي بما هو مذهبي. وتلك متاهة سوف تعرقل الي حد بعيد تجربتنا السياسية، وقبل ان ندخل لهذا الموضوع لابد ان نؤكد ان الحزب السياسي هو طليعة تنظيمية تعكس مصالح طبقة اجتماعية او شريحة من المجتمع واي خروج عن هذه الوظيفة هو خروج عن وظيفة الحزب السياسي وقد انتهت التجربة الحزبية في العالم المعاصر الي تأكيد هذا المعني، فهناك احزاب اليمين التي عادة ما تصك اسماءها مستخدمة عناوين مثل الديمقراطي أو الحر، وهي احزاب تعبر عن الطبقات الرأسمالية وتدافع عن مصالحها، فهي تقف مع التجارة الحرة ومع افساح الطريق الرأسمالي الفردي او الاحتكاري وهناك احزاب اليسار بكامل اطيافها والتي تستخدم مصطلحات مثل العمال او الشعب او الجماهير. وفي كل الاحوال فان كل الاحزاب من يمين ويسار تكون حريصة علي ان تحدد توجهها الطبقي، ثم يأتي البرنامج السياسي لكي يفصل وجهة نظر هذا الحزب الذي يعبر عن تلك الطبقة، والصراع بين تلك الطلائع السياسية، يتم في اطار ديمقراطي يعلن فيه كل حزب رؤيته السياسية. علي سبيل المثال فان احزاب اليمين تكون مع خفض الضرائب علي الارباح، ومع تقليص المشروعات العامة وعن الدفاع عن المصالح الرأسمالية، خارج اطار الوطن حتي لو اقتضي التدخل العسكري كما حدث في افغانستان والعراق وليبيا، لان هذه التدخلات لم تكن لوجه الله تعالي، وانما كانت دفاعا عن مصالح رأسمالية حقيقية ليس هنا مجالا لتفصيلها. واما كتلة احزاب اليسار فانها تميل الي زيادة الضرائب علي الارباح الرأسمالية وتوسيع برامج الخدمة الاجتماعية وتخفيض البطالة وتأتي احزاب الوسط لكي تعكس بعضا من مصالح الطبقات الشعبية، وبعضا من مصالح صغار الرأسمالية. علي هذه الاسس يتم الصراع السياسي في العالم فالحزب مرة اخري هو طليعة سياسية لطبقة اجتماعية يدافع عن مصالحها ويحاول اقناع ناخبيه بمزايا برامجه السياسية، اي ان هناك تفاعلا حيا بين الناخب وبين الحزب وهذا التفاعل الحي هو ما ينشط العمل السياسي في الدول المتقدمة، ويضع افضل الخيارات امام الشعوب وللتذكرة مثلا فان الانتخابات الاخيرة في فرنسا قد اتت بهولاند اليساري علي انقاض ساركوزي اليميني وهذا يعني مزيدا من التنشيط للحياة السياسية في فرنسا لان هذا التغيير يفتح الباب امام احزاب سياسية حقيقية وجادة ويجعل المجتمع يجدد نفسه ويعدل مساره ويتوازن حضاريا فيجنح يمينا او يسارا حسب مقتضيات المرحلة التاريخية وطبقا لاحتياجات المجتمع. ولكن في الشأن العربي عموما وفي المصري خصوصا فان الترهل السياسي وعدم التحول وخلط المفاهيم وتجاهل عقول الناس ومخاطبة عواطفهم هي ابرز ما يميز العمل السياسي، وقد كنا نعتقد ان ثورة تعمدت بالدم مثل ثورة 25 يناير سوف تكنس كل هذا العفن السياسي الذي كان يؤصله ويروجه الحزب الوطني المنحل الذي دأب علي تبشير الناس باللبن والعسل بينما كانوا يغوصون في مستنقع البطالة والعشوائيات السكنية، لم نبعد كثيرا اذن وان كانت لغة الخطاب السياسي قد تغيرت فالاحزاب السياسية التي تضخمت وتكاثرت علي الساحة المصرية لا علاقة لها بالوظيفة السياسية للحزب، كما اوضحناها في صدر هذا المقال فالحزب عندهم ليس طليعة تدافع عن مصالح طبقة وسياسة الحزب ليست مع الطبقات الشعبية او ضدها وليست مع الطبقات الرأسمالية او ضدها ولكنها ترفع شعارات دينية، اي انها تخرج بالحزب عن وظيفته التي من اجلها نشأ فالحزب الديني يعبر عن المسلمين اغنياءهم وفقراءهم، طبقاتهم الشعبية وشرائحهم الرأسمالية لاجل هذا فان البرنامج السياسي للمرشحين الاسلاميين لا يتحدث بلغة محددة، وانما يلجأ الي التعميم الذي يرضي جميع الاطراف فهو يتحدث عن تنمية وازدهار وعن عدالة اجتماعية سوف تشمل عموم الشعب دون ان يوضح لنا آليات تحقيق ذلك مختفيا وراء شعارات حالمة تخلو من المضمون مثل الحديث عن النهضة وعن مشاريع عامة سوف تنتج لنا المن والسلوي. الخطأ اذن عند الاخوان المسلمين وعند غيرهم من احزاب النور والاصالة والوسط يكمن في المغالطة في تصوير وظيفة الحزب فالحزب هنا يعبر عن معتقد ديني، وذلك اقرب الي ان يكون الي مؤسسة تربوية، وللمؤسسات التربوية برامجها ووسائلها، لكنها شيء مختلف عن العمل الحزبي والمؤسسات التربوية تعني بتثبيت العقائد وتقويم السلوك والاحزاب السياسية تعني بتحقيق البرامج والدفاع عن المصالح والمؤسسات التربوية تشحذ العواطف والاحزاب السياسية تخاطب العقول بالارقام والاحصاءات والخلط بين الاثنين من شأنه ان يربك التجربة الحزبية التي استبشرت بها خيرا بعد تفكيك الحزب الوطني وسقوط سلطته السياسية، لكن يبدو اننا كنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهنا نحن نمارس او يمارس علينا نفس الخداع السياسي الذي يأتي مغلفا بالدين في استبعاد كامل لحق الطبقات الاجتماعية في بناء تشكيلاتها السياسية والاجتهاد في بناء دولة عصرية يستحقها شعبنا وتستحقها اجيال عمدت ثورتها بالدم، لكن يبدو اننا توهنا وتاهت مقاصدنا فقد انتلقنا من تزوير الانتخابات الي تزوير الارادات! وها هي صيحات تتساقط علينا من العصور الوسطي تتحدث عن انتخاب المرشح الاسلامي علي انه واجب ديني كأنما هو صلاة او صيام وفي ذلك ما فيه من نسف كامل للتجربة السياسية التي تلزم الحزب بان يحدد توجهاته الطبقية وانحيازاته السياسية وبرامجه التي يقترحها لتحقيق هذه الغايات. اصبح كل هذا مستبعدا وتم استحضار سيف التحريم ومطرقة التكفير كي ترفع به الجلسة الديمقراطية ويعقبها صمت الولاء والطاعة الذي تصورنا اننا قد تجاوزناهما الي مرحلة من النضج السياسي تجعل المواطن المصري متفاعلا مع مؤسساته السياسية وليس مبايعا لشيخه الديني، لكن يبدو اننا انتقلنا من مرحلة بالروح بالدم نفديك يا رئيس الي مرحلة المبايعة علي السمع والطاعة دون استخدام نعمة العقل في محاورة او مناقشة صاحب الفضيلة المؤيد من السماء! ان الوطن في حالة حرجة وما لم تنتبه الجماهير للفخ الذي ينصب لها فاننا سوف نرتد الي ما هو اسوأ من نظام مبارك، فها هي بوادر التلاعب في نتائج الانتخابات قد بدأت تظهر علي الساحة، لكن التلاعب هذه المرة لن يكون مركزيا كما كان في زمن مبارك، لكنه سوف يكون تلاعبا من المجتمع بزجاجات من الزيت واكياس من السكر والارز توزع علي الكتلة الصامتة من المواطنين الذين لم تدركهم انوار الثورة وسوف يتم دفعهم الي انتخاب مرشح كل ما يملكه وعود بالجنة وصفائح من زيت الدنيا. اقول ان الديمقراطية مطلب طال تأجيله وان استخدام اسلحة غير شريفة من قبل يناير برفع شعارات دينية في مصر، وهذا يرجح احتمالات قوية بقيام موجة ثانية من الثورة المصرية تكنس لها هذه الخزعبلات التي تعبث بالمفهوم الحزبي وبالعمل السياسي وبالبرامج الانتخابية والتي تحول كل ذلك الي »فطير وفريك تغمسه بالعسل« لكي تضلل به وعي الجماهير التي طال شوقها الي برامج تنمية حقيقية والي عدل اجتماعي فعلي.