لعب الإسلام دورا كبيرا في صياغة تاريخ وثقافة شعوب المجتمعات الناطقة باللغة العربية. وكما عرف »العقل المسلم« فترات ازدهار »بمعايير القرون الوسطي« حتي القرن الثاني عشر الميلادي، فقد عرف منذ هذا الوقت رحلة انحدار وجمود وانغلاق لاتخفي معالمها علي أحد. ومنذ تفاعلت شعوب هذه المجتمعات مع الغرب »منذ اليوم الاول للحملة الفرنسية علي مصر سنة 8971« فقد اصبحت الإشكالية الكبري متجسدة في خيارين أو منهجين: الاول يزعم أن تأخر مجتمعاتنا كان ولايزال بسبب عدم تمسكنا بالمنظومة الاسلامية كلها كنهج حياة وعمل للافراد والمجتمعات. اما المنهج الثاني فكان »ولايزال أصحابة يرون حتمية الاخذ بآليات الحضارة الغربية كشرط أساس لتقديم مجتمعاتهم. ويمكن القول »بقليل من التعميم« أن المناخ السياسي والثقافي والفكري والتعليمي في المجتمعات الناطقة بالعربية لايزال يشهد صراعا بين هذين المنهجين: منهج الرجوع للجذور والاصول الإسلامية، ومنهج الاخذ بآليات وفعاليات الحضارة الغربية التي تجاوزت اليوم الغرب بمعناة الجغرافي، حيث صارت هذه الآليات في مجتمعات عديدة خارج أوروبا. وفي اعتقادي ان دعاة العودة للجذور والاصول ليس لديهم ما يقدمونه إلا الوعود الكبيرة للعامة. أما خاصة المثقفين فيعرفون أن التاريخ الإسلامي كان تاريخا بشريا محضا شهد فترة ازدهار نسبي »يبالغ في حقيقتها ومداها كثيرون« ثم أخذت في الانحسار والانهيار عندما افرزت من داخلها عقلية نقلية مضادة للعقل والابتكار ووضعت سقوفا منخفضة لعمل العقل الانساني. وفي كل الاحوال، فإن الفترة التي يسميها البعض بالحقبة الذهبية ليست الا فترة ذات ملامح تعكس حقائق العصور الوسطي بكل ما تعنيه الكلمة. والمعضلة الكبري في هذا الجدل »العقيم في نظري« هو خطيئة اعتبار محركات وفعاليات وديناميكيات ومحفزات الحضارة الغربية »غربية« فقد اثبتت في العديد من كتبي ان التقدم الذي شهدته أوروبا الغربية قد حدث بفعل عوامل انسانية اكثر من كونها أوروبية أو غربية. وأول هذه العوامل هو الحد الكبير من سلطان ونفوذ رجال الدين ثم رفع سقف حرية التفكير وإعمال العقل النقدي وهما العاملان اللذان طورا قيم التقدم والتي هي جلها »إنسانية صرف« وليست غربية أو مسيحية أو أوروبية. ومن اوضح الأدلة علي إنسانية وعالمية قيم وفعاليات التقدم هو ما حدث علي نطاق واسع في القارة الآسيوسة عندما وظفت مجتمعات غير أوروبية آليات وقيم التقدم لإحداث النهضة، فتحققت النهضة المرجوة. وهذا ما شهدته الدنيا في اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان ثم بعد ذلك في مجتمعات اخري مثل المجتمع الماليزي الذي يمكن اعتباره أوضح الأدلة علي عالمية وإنسانية قيم وآليات التقدم. وبالعودة للمجتمعات الناطقة بالعربية فإن تحليل ظواهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والإعلامية المعاصرة سيؤكد خلو بيئاتها من قيم التقدم التي هي كما ذكرت انسانية وعالمية بكل وضوح. سيكون دائما التحدي الأكبر لهذا النهج آتيا من المؤسسات الدينية ليس بدافع ديني محض »ولاحتي بأي دافع ديني حقيقي« وإنما بدافع الدفاع عن سلطان ونفوذ لا حد لهما في إدارة وتوجيه الحياة في مجتمعاتهم. وبنفس الجزم فإن المنطقة المقدسة التي يجب التعامل معها كحجر اساس مشروع النهضة هي مؤسسة التعليم بما في ذلك »بل وعلي رأس ذلك« التعليم الديني. فأي عمل خارج هذا المضمار سيبقي هامشي الاثر والجدوي. فالجدوي مرهونة بما سيحدث داخل المؤسسات التعليمية »وأكرر: وفي مقدماتها مؤسسات التعليم الديني«. فإصلاح التعليم بوجه عام وإصلاح التعليم الديني بنفس الدرجة من الاهمية هما حجر الأساس الذي لن يكون بوسع أحد في مجتمعات منطقتنا »الناطقة بالعربية« إنجاز مشروع التقدم والنهضة اذا ما لم تتم قبل ذلك عملية إصلاح في التعليم وفي التعليم الديني تغرز في العقول والضمائر قيم التقدم وبصفتها قيما انسانية وعالمية في المقام الاول. وحول التقدم أقول ان نظرة »مما اطلق عليه في كتاباتي في علوم الادارة الحديثة helicopter view نظرة من عل« للمجتمعات المتقدمة مع معرفة »عميقة« موازية لتاريخها ومسيرتها تنبيء بأن التقدم في المجتمعات التي بلغت شأنا بعيدا في مسيرة النمو والتقدم كان نتيجة لمجموعة من القيم تم تأصيلها في المجتمع من خلال تأصيلها في العملية الدينية، وهي القيم التي تحتاج مجتمعاتنا الناطقة بالعربية لإعادة بناء مؤسساتها التعليمية ومنها مؤسسات التعليم الديني علي اساسها. وأول قيم التقدم هي العقل والنقد والفضاء الواسع للعقل النقدي »Critical Mind« وهذه القيمة الاولي من قيم التقدم ستكون دائما الاكثر تعرضا لهجمات الثيوقراطية والثيوقراطيين لعلمهم بتجليات تأصل هذه القيمة من خلال المؤسسة التعليمية في اي مجتمع. وثاني هذه القيم هي تأصيل قيمة التعددية »PLurality« كعلم من أهم معالم الحياة بوجه عام، والمعرفة والعلم والثقافة بوجه خاص. وثالث هذه القيم هو الغيرية »Otherness« التي فحواها قبول الآخر أيا كان شكل أو نوع الآخر، والغيرية نتيجة طبيعية لتأصل قيمة التعددية. ورابع هذه القيم هي عالمية وإنسانية المعرفة والعلم »Universalitv of science& knowledge«. وهذه القيمة ترتبط ارتباطا جدليا »Dialectic« وثيقا بالقيم الثلاث السابق ذكرها. والقيمة الخامسة هي التسامح »Tolerance« الديني والثقافي كنتيجة طبيعية للإيمان بتعددية أوجه الحياة المختلفة. والقيمة السادسة تتعلق بالمرأة ومكانتها في المجتمع انطلاقا من رؤية ونظرة للمرأة ككائن مساوي كلية للرجل ويماثله في الحقوق والواجبات والقيمة الانسانية. والرابط بين التقدم ووضع المرأة هو رابط جدلي ثنائي: فمن جهة فإن المرأة هي نصف المجتمع عدديا، وتعطيل نصف المجتمع لايمكن إلا أن يأتي بنتائج سلبية ومن جهة اخري فإن المرأة هي التي تربي النصف الآخر، فإذا لم تكن انسانة حرة فإنها تنشيء النصف الآخر من المجتمع وهو مخلوط بالعيوب والسلبيات الناجمة عن نشأته علي يد دونية. والقيمة السابعة هي حقوق الإنسان بمفهومها الذي تطور خلال القرنين الأخيرين. والقيمة الثامنة هي قيمة المواطنة »Citizenship« كأساس للعلاقة بين افراد المجتمع بعضهم ببعض ولعلاقتهم بالدولة. والقيمة التاسعة هي مفهوم الدولة الحديث ومفهوم سيادة القانون »Rule of law« اللذان يختلفان عن مفاهيم القبيلة والقرية والعائلة. والقيمة العاشرة هي الديموقراطية بصفتها أجل استبداعات الانسانية خلال القرنين الاخيرين. والقيمة الحادية عشرة هي قيمة العمل وهو ما يتضمن ما يحيط بالعمل من مفاهيم حديثة مثل العمل الجماعي والاتقان وتقنيات الإدارة الحديثة وثقافة المؤسسة عوضا عن ثقافة الاشخاص. والقيمة الثانية عشرة هي قيمة الاهتمام بالمستقبل اكثر من الاهتمام المفرط بالماضي الذي هو من معالم الثقافة العربية. والقيمة الثالثة عشرة هي قيمة الموضوعية »Objectivity« التي ان كانت نسبية الا انها تختلف عن الشخصنة الشائعة في ثقافات قديمة من أهمها الثقافة العربية. فسوسيولوجيا القبيلة التي حكمت الثقافة العربية لحد بعيد تعمل لصالح الشخصنة ويبعد عن مفهوم الموضوعية. والقيمة الرابعة عشرة هي نسيبة »Relativity« العلم والمعرفة والاحكام الانسانية. فرحلة العقل الانساني خلال القرون الثلاثة الماضية قد اخذته بعيدا عن ثقافة الاحكام المطلقة وقربته من ثقافة الاحكام النسبية. والقيمة الخامسة عشرة هي ثقافة المشاركة »Participation« لا التبعية. والمشاركة هي قيمة تتعاض كثيرا مع ما أفرزته الثقافات العربية عبر القرون من تعاظم الاتباع وضآلة المشاركة. ولكن ما العمل؟ أقول خلال القرنين الماضيين تقدم انصار العلم والعقل والحداثة في مجتمعاتنا قليلا ثم حدثت انتكاسة فأصبحوا في المرتبة الثانية وبمسافة بعيدة وراء مدرسة الرجوع للجذور والاصول. وفي اعتقادي ان اسباب حدوث ذلك عديدة ولكن يبقي في مقدمتها تواصل الجدل علي المستوي الفوقي أو الكلي »الماكرو« وعدم التركيز علي التغيير الجذري في العقلية من خلال التعليم. فالحوار علي المستوي الفوقي يبقي في غالبه قائما علي الشعارات وهي الاكثر جذبا للجماهير. وجل انصار منهج العودة للاصول اصحاب شعارات جذابة للعامة، حتي ان كانوا من انصاف المتعلمين وانصاف المثقفين »كما هي حالة اغلبهم«. وحتي عندما سمحت الفرص بوجود قيادات قادرة علي انجاز رحلة العبور من ظلام الواقع لنور التقدم »كما حدث في تركيا من 3291 إلي 8391 وكما حدث في تونس من 6591 إلي 7891« ، فرن العمل في مؤسسات التعليم لم يكن كاملا ولم يكن شاملا بل ووصل حجم التعليم الديني »منبت الصلة بعقلية التقدم والحداثة« في بلدان حاكمة مثل تركيا ومصر ما بين 51٪ و 02٪ من أبناء وبنات المجتمع المنخرطين في العملية التعليمية. وفي اعتقادي انه رغم صعود موجة الرجوع للأصول والجذور، فإن الوضع العالمي وحركة التاريخ هي في صالح القيادات السياسية وقيادات المجتمع المدني والنخب المثقفة وقيادات التعليم والإعلام المؤمنين بالتقدم، وسيكون بوسع هؤلاء في ظل هذه الظروف العامة ان يبذروا بذرة الإصلاح في ارض التعليم بوجه عام والتعليم الديني بوجه خاص. إن متابعتي لأحوال المجتمعات الناطقة بالعربية الثقافية لقرابة اربعين سنة تجعلني اقرب إلي اليقين بأن تجاهل الدين »ناهيك عن تجريحه بأقلام وألسنة اشخاص يحركهم الغضب وليس العلم« هو موقف لن تكون له أية ثمار إيجابية. فالدين جزء أساسي من الهواء الذي تتنفسه شعوب منطقتنا الناطقة بالعربية. ومن الاجدي العمل علي اصلاح المؤسسات الدينية والثقافة الدينية والتعليم الديني والتعليم بوجه عام عن الدخول في مبارزة دون كيشوطية لن تكون لها آثار الا فقدان الجماهير وتباعدهم. وهنا تكمن خطورة مجموعات من المثقفين العرب جعلوا مهمتهم الاولي الهجوم العاتي علي الدين وليس العمل علي إصلاح فهم الناس له.