لولا أنني من المطالبين بضرورة تقديم عمر سليمان مع أحمد شفيق الي محاكمة سياسية عن تورطهما في معظم جرائم حسني مبارك، لشكرتُ رئيس المخابرات السابق لأنه ترشح لإنتخابات الرئاسة، مما فجر غضب الشعب المصري الذي شعر بأن نظام مبارك يحاول العودة الي السلطة بقناع جديد بعد ثورة تعمدت بدم الآلاف من أنبل شباب مصر من الشهداء والمصابين. عودة عمر سليمان بهذه الصورة المريبة المفاجئة نبهت الناس الي أن كل ما يقال عن مؤامرة لإجهاض الثورة والإلتفاف عليها وإعادة إنتاج نظام الرئيس المخلوع، لم يكن بلا أساس.. ولعل الطريقة التي حصل عليها كاتم أسرار مبارك علي التوكيلات الشعبية اللازمة لترشحه والمظاهرة المستفزة التي زُف بها الي مقر لجنة الانتخابات في حراسة جحافل الشرطة العسكرية والحرس الجمهوري، هي التي أيقظت الناس ولفتت إنتباههم الي حجم الثورة المضادة.. وكانت المحاولة الاخيرة من جانب "عمر مبارك"، أقصد عمر سليمان، للإنقضاض علي الثورة مناسبة لإثارة التساؤلات عن بقاء هذا الرجل خارج القضبان بعد مشاركته في جرائم مبارك ،وسكوته عن تهريب أموال المصريين بعد الثورة.. وهذه تهم يشترك فيها مع أحمد شفيق وزوجة الرئيس المخلوع؟!!.. غير أن عمر سليمان هو الاخطر بما لا يقاس لأنه يعرف الكثير من الأسرار.. فهو سادن مبارك وكاتم أسراره، وهو الوحيد الذي يمكنه تحديد حجم المليارات التي نُهبت من مصر.. والجهة التي هربها اليها الرئيس المخلوع وعصابته.. ولو كان الثوار قد حكموا مصر بعد الثورة، كما يحدث في كل الولادات الطبيعية للثورات التي لا تتعرض لمخططات الإجهاض والتآمر، لكان قد تم إعتقال كل أعوان الرئيس المخلوع علي الفور وتقديمهم لمحاكمات ثورية أمام محاكم خاصة.. وهذا أمر معتاد في الثورات يُعرف بالعدالة الإنتقالية.. وكان ذلك كفيلا بحصار الفلول وتوجيه ضربة استباقية ضرورية لقوي الثورة المضادة.. والاهم من كل ذلك فتح صندوق الاسرار الكبير لعهد مبارك والذي يملك مفتاحه عمر سليمان.. ولكن ما حدث هو أن الثوار وثقوا أكثر مما يجب في المجلس العسكري، وصدقوا أنه مع الثورة وسوف يحميها.. ونسوا أن الجنرالات كانوا جزءا لا يتجزأ من النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه، فضلا عن أن الثوار لم ينتبهوا لإنتهازية الاخوان فجاءتهم الطعنة المزدوجة من مأمن.. ومن سوء حظ الثورة أن المجلس العسكري والاخوان تجمعهما الطبيعة المحافظة التي لا تميل الي التغيير، فما بالنا بالتغيير الجذري المفاجيء الذي يتعين أن يصاحب الثورات؟!.. هنا توحدت إرادة المجلس والاخوان لفرملة الثورة.. الاول يريدها مجرد تغيير شكلي أو "تجميلي" في السياسات والوجوه لا يصل الي جوهر النظام.. والاخري تريدها حركة إصلاحية تدريجية تضمن سيطرة الاخوان علي مفاصل الوطن.. وهنا اجتمعت الإرادتان علي جريمة عدم الإعتراف بالشرعية الثورية، وعلي كارثة التعديلات الدستورية التي أجرتها لجنة من "الأشقياء" يقودها قانونيون معروفون بميولهم الإخوانية.. هذه التعديلات المعيبة هي التي أدخلتنا في ذلك النفق المظلم الذي نجاهد الآن للخروج منه، وهي سقطة لن يغفرها التاريخ لكل من تورطوا فيها.. كما فتحت الباب "لتديين" الاستفتاء عليها، والمتاجرة بعواطف شعب متدين بطبيعته، حيث تم تصوير الأمر وكأن الشريعة والإسلام في خطر.. وفي غمرة تعجل الإخوان لقطف ثمار الثورة وجمع غنائمها، لم تُتح أدني فرصة لمناقشة عقلانية موضوعية متأنية وتفصيلية لمواد الإعلان الدستوري، وبعضها كارثي بمعني الكلمة مثل المادة 28 التي تحصن قرارات اللجنة العليا للإنتخابات الرئاسية ضد الطعن ،وهو ما يُهدر حق التقاضي ويعزز الشكوك بشأن نزاهة وشفافية الإنتخابات الرئاسية.. وكذلك المواد التي تقلص صلاحيات البرلمان وتحرمه من حق سحب الثقة من الحكومة، وهو الفخ الذي وقع فيه الاخوان والسلفيون ويعانون منه حاليا.. ناهيك عن السماح بقيام أحزاب دينية وغض الطرف عن دعاية دينية مكشوفة.. وكان من الطبيعي في ظل أسلمة المرحلة الانتقالية، بتواطؤ واضح من المجلس العسكري، أن يحصل التيار الإسلامي الاكثر تنظيما وتمويلا علي أغلبية مجلسي البرلمان.. وكانت هذه النتيجة بداية القطيعة الواضحة بين الاخوان المسلمين وقوي الثورة الحقيقية.. إذ تخلي الاخوان عن تعهداتهم للقوي الوطنية الاخري بالتنسيق والمشاركة، وفضلوا خيار المغالبة حتي قيل إنهم إنحازوا لخيار جديد هو "السلطة هي الحل".. وظهر ذلك جليا في الإستئثار برئاسة اللجان البرلمانية.. ثم محاولة الاستفراد بتشكيل اللجنة التأسيسية المعنية بوضع مشروع الدستور الجديد الذي سيعبر عن مصر الثورة ويرسم مستقبلها لعقود قادمة.. وأخيرا الدفع بمرشحين للرئاسة أحدهما أساسي والآخر احتياطي مما أثار استياء واستنكار قطاعات عريضة حتي من داخل التيار الإسلامي بل ومن بين الاخوان أنفسهم.. وقبل ذلك كان قد بلغ الاستقواء بالإخوان حد الإدعاء بأن شرعية البرلمان تجُب شرعية الميدان، بل تخلوا عن القوي الثورية وكالوا لها نفس الإتهامات التي كان يصوبها نحوهم نظام حسني مبارك.. ولكن عندما وجد الاخوان أنفسهم في طريق مسدود، وظهر لهم الذئب ممثلا في الجنرال الغامض وسط النفق المظلم، عادوا مذعورين الي الميدان للإحتماء بالظهير الشعبي.. وكل ما نتمناه هو أن تكون عودا حميدا يُتبُعه الإخوان بالإعتراف بأخطائهم والتحرك الجاد لإصلاحها.. وأول خطوات الإصلاح هو التنفيذ الفوري الكامل لحكم القضاء الإداري الخاص ببطلان الجمعية التأسيسية ثم سحب مرشحيهم للرئاسة حتي يطمئن الجميع الي أنهم مع المشاركة وليس المغالبة و"التكويش".. إنهم أمام فرصة تاريخية للعودة لأحضان الثورة وربما تكون الجمعة القادمة بداية هذه العودة..