في تقديمه لشهادة الراحل الكبير الأستاذ خالد محمد خالد، أشار مؤلف كتاب:»المثقفون وثورة يوليو« الدكتور مصطفي عبدالغني إلي العلاقة بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والأستاذ خالد محمد خالد. وصف د. عبدالغني هذه العلاقة بأنها( »كانت مزيجا من التوتر والاحترام، وجسّدت حالة من حالات الحوار المستمر بين المثقف والسياسي. فقد وجد الرجلان نفسيهما في لحظة واحدة أمام أكثر القضايا حساسية في ذلك الوقت: »الديمقراطية«. و حاول كل منهما أن يحل المسألة حسب رؤيته. فعبد الناصر وضع »العدالة الإجتماعية« في المرتبة الأولي، في حين قدم خالد محمد خالد »الديمقراطية« علي كل شيء، معتبراً أنها الطريق المؤدي إلي العدالة الإجتماعية.. وليس العكس«). العلاقة بين الرجلين بدأت قبل قيام الثورة. وقتها.. سمع خالد محمد خالد عن »ضابط شاب« يشتري من جيبه الخاص عدة نسخ من كتب خالد محمد خالد، ليوزعها علي زملائه الضباط، لكن ما لم يعرفه المفكر الكبير عن الضابط الشاب المعجب بكتبه، والداعية له ولها بين معارفه، أنه كان يعد هو ومن معه خطة ستغير مسار مصر الحديثة.. ليس فقط علي مستوي السياسة، لكن علي مستوي الثقافة والعلاقات الاجتماعية أيضاً. ويقترب مؤلف الكتاب أكثر فأكثر من العلاقة التي ربطت بين الرجلين بعد قيام الثورة، فيقول إن كلا الرجلين كان لديه مشروعه الخاص الذي انشغل به. عبدالناصر بخلفيته العسكرية، وخبراته في حرب فلسطين، أراد أن يقود البلد منفرداً بنفس طريقة قيادة الكتيبة، حيث الانضباط يعكس معني العدل. وخالد محمد خالد في المقابل كان ينظر في زاوية أخري. فهو المفكر الذي تخرّج في كلية الشريعة بالأزهر، وعاش بين الكتب، ورأي أن »قيادة دولة بحجم مصر، يجب أن تعتمد علي رجل واحد لا طيف سياسي واحد«. أراد خالد محمد خالد أن تكون السلطة عملية إدارية فقط، وليست عملية جراحية لتغيير مصير البلد كله.. كما أرادها عبدالناصر. ومن هنا.. جاء الصدام بينهما. فمنذ اللحظات الأولي للثورة، وتحديداً كما كتب الزميل د. مصطفي عبدالغني بعد قيامها بعشرين يوماً علي وجه الدقة. وجد خالد محمد خالد نفسه مدعواً من المسئول عن الإذاعة آنذاك الإعلامي الشهير الراحل: محمد فتحي ليتحدث إلي الناس الذين كانوا يتساءلون وقتها عن طبيعة الوافدين الجدد علي قصر عابدين. حاول المفكر الكبير الاعتذار، لكن المسئول الإذاعي أكد له أن دعوته للحديث جاءت بناء علي رغبة الضباط الحكّام.. فوافق علي الحديث، واختار الحديث عن »الديمقراطية« باعتبارها أهم ما يجب أن يحرص الناس عليه. يبدو أن الحديث كما أراده المفكر خالد محمد خالد لم يكن متوقعاً من الضباط الأحرار، فمنعوا البث! وعاد المفكر إلي بيته وقد عرف أي طريق اختاره الحكام الجدد لإدارة شئون البلاد! تعارض خط »المفكر« و خط »الزعيم« لم يفسد للود بينهما قضية. فقد حرص عبدالناصر كثيراً علي حماية خالد محمد خالد مما كان يدبر له من حوله. حقيقة أن محاولات بذلت من جانب أصدقاء الطرفين لإثناء أيهما عن موقفه، لكن حقيقة أيضاً أن »المفكر« و »الرئيس« ظلا علي مسافة واحدة من القضايا الخلافية، خاصة تلك التي تتبني مشروعاً معيناً لإدارة الدولة. يضيف د. مصطفي عبدالغني في تقديمه لشهادة المفكر الكبير الراحل، فيقول: [ارتكز عبدالناصر علي شعبية كاسحة، وثقة مطلقة، أعطاها له ملايين المصريين، في حين اعتمد خالد محمد خالد علي كتاباته التي استمرت في سيرها عكس اتجاه مؤسسة الرئاسة. كان كل من »الرئيس« و »المثقف« علي ثقة أن القادم من الأيام سيثبت خطأ بعض آراء كل منهما]. عندما سُئل خالد محمد خالد عما إذا كان يتوقع قيام الثورة، أجاب: [ لقد هيأت نفسي لقيامها، مثل غيري من إخواني المثقفين. وحين قامت.. فرحت بها كما فرح المصريون جميعاً، و إن كنت لم أكلف نفسي عناء زيارة مجلس قيادة الثورة، لأدلل علي أن الثورة كما كان يتردد حينئذ مباركة. ولم أسع لمقابلة الضباط القادمين إلي الحكم.. كما فعل غيري من المثقفين. كنت أترقب كيف سيدير الضباط صغار السن أمور الدولة.. بعد أن كان الوضع متوترا جداً في آخر أيام الملك؟]. ولم ينتظر خالد محمد خالد طويلاً. فقد فوجيء بقرار »حل الأحزاب السياسية« ، و تلاه »حل البرلمان«.. ثم جاء دور »الدستور« الذي صدر قرار ب »إلغائه«. وتعليقاً علي هذه القرارات قال خالد محمد خالد في شهادته المنشورة في كتاب:»المثقفون وثورة يوليو«: [ .. هنا شممت رائحة الديكتاتورية، والحكم المطلق. تأكد هذا لدي عندما بحثوا عني كي أتحدث في الإذاعة برغبة من الضباط الحكام واخترت أن يكون ما أتحدث عنه »حق الشعب في المعارضة والمقاومة، وحقه في الحرية والاستقلال«. ففوجئت بإيقاف هذه الأحاديث، وأدركت وقتها أنهم لا يريدون مثل هذا الكلام. لا عن المعارضة، ولا عن الحرية]. .. بقية شهادة خالد محمد خالد، غداً بإذن الله. إبراهيم سعده [email protected]