كتب برنارد شو وصفا دقيقا لحادثة دنشواي بأسلوبه الساخر فاذا بها أبدع ما يمكن ان تقرأه عن هذه الواقعة الاكثر سوادا في تاريخ الاحتلال البريطاني ... صرت - شكاكة - لما يعرف بالتاريخ، أي تاريخ ، ما عدت أصدق رغم شغفي به، فما أدراني بأنه الحقيقة كما وقعت وما نشهده في أيامنا مع استعادة الأحداث غير البعيدة منها ما عايشناه أو وعينا عليه في صبانا، ثم نتابع ما طرأ من لي لحقائق وتشويه لوقائع وتعديل وتبديل في ظروف ومواقف، وتقديم لهوامش نفخ ومبالغات وتكبير لسفاسف، هذا لابد ويهز ثقتك.. فما بالك بتاريخ سالف الدهر والاوان عندما لم يكن لدي الانسانية وسائل تسجيل و لا توثيق أو تصوير.. فان كان زماننا تكتب فيه الاحداث و تفسر و تؤرخ وفق أهواء الكاتب أو انتماءاته السياسية وأغراضه، والاعمال الدرامية تقدم للملايين بمختلف ثقافاتهم وعقلياتهم علي أنها تاريخ لماض قريب، بينما لا هي تنتسب الي تاريخ ولا ربما حتي الي فن الدراما من أصله، بل توليف من توظيف أحداث هامشية واقحامها علي زمام أحداث تاريخية لخدمة أغراض سياسية وبنحو فج ورسالة مباشرة وكل رسالة مباشرة ممجوجة و.. يا خسارة الاداء البارع لفنانين متمكنين بتعبير مستوي عالمي قادرين علي تحويل توليف سذاجات ومبالغات إلي شيء قد يستحق المشاهدة... انما وغالبا لن نعدم عملا آخر يأتي بالمقابل فيتمادي في الرد او التصحيح وينزلق غالبا علي الناحية الاخري و ما بين هذا وذاك تنتفي الموضوعية و يضيع بينهما او بينهم التاريخ الأقرب الي الحقيقة ولهذا لا أجافي التاريخ - لا أقدر - و لكني لا أصدق كل ما اقرأه أو.. اشاهد ! عموما فظاهرة التضليل والضلال التاريخي منتشرة اقليميا وعالميا وياما دخل علي التاريخ الذي نقرأه أقاويل وشائعات استقرت وصارت حقائق وكلنا علي مر العهود والعصور بشر ذوو اهواء واتجاهات وانتماءات وميول، ولذا وجب علي ذوي الأغراض التنحي عن محاولات تقديم الاهواء وكأنها التاريخ أو حتي ولو من قبيل التأريخ ( بالهمزة ) هذا تضليل وليكتفي المعاصرون بتقديم شهاداتهم او الاصح وجهات نظرهم ووثائقهم وليتركوا التاريخ لمن هم من بعدهم.. نموذج ماري أنطوانيت اذا كان الشيء بالشيء يذكر ففي هذا السياق أستعيد كتابا قرأته ذات اجازة صيفية لباحثة بريطانية معروفة في المجتمع البريطاني، مشهورة بأبحاثها في دهاليز الشخصيات التاريخية هي " ليدي انطونيا فريزر " تستغرقه بدأب لسنوات تغوص في العمق بحثا وتنقيبا في سراديب الماضي و تتوغل في شخصيات تاريخية لحين تعثر علي معالم أخري أو دلائل مغايرة أهيل عليها التراب ودفنت في طيات بلا اكتراث بين طيات الزمن دون ان يدري بها أحد... اختارت بين من اختارت للبحث والتقصي شخصية ماري انطوانيت الملكة تعيسة الحظ وانغمست أعواما تبحث وتنقب فكانت من أشد المفارقات التي عثرت عليها بين كل الشخصيات التاريخية التي حققتها وقدمتها تباعا في كتبها... معروف عن الملكة ماري انطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر وهما اللذان فصلت رأسيهما ( الجيلوتين ) مقصلة الثورة الفرنسية بالنحو المشهود.. انما قدر الغبن والظلم المبين الذي كشفت عنه هذه الباحثة البريطانية ذلك الذي كان من نصيب تلك الملكة صغيرة السن تعيسة الحظ التي نالت منها الشائعات المغرضة في عهدها فسجلها التاريخ والتصقت بها، فعندما توغلت ليدي انطونيا بعمق وتمعن في الحياة الاجتماعية والقصر الملكي لفرنسا في عهد لويس السادس عشر وبحثت وأنفقت أعواما بين سجلات وكتابات والظروف التي أحاطت بالعرش في تلك المرحلة الاخيرة قبيل الثورة الفرنسية، فوجئت الباحثة بشخصية مغايرة تماما لما التصق بتلك الملكة التي قدمها التاريخ المتداول كشخصية تجسد التفاهة والاستخفاف بالامور وانعدام الاحساس والمشاعر... كانت ماري انطوانيت شخصية تتناقض مع ذلك تماما، ابنة امبراطورة النمسا ودخيلة علي البلاط الفرنسي، جيء بها من فيينا كزيجة سياسية تهدف لتوثيق الروابط بين العرشين، وظلت دوما " الأجنبية" الغريبة بين دوائر القصر الملكي الفرنسي، مكروهة بين حاشية الملك شبه منبوذة وضحية الوشايات والشائعات، وليمة دسمة بين دوائر الدس والتهكم والنميمة التي كانت تشغي بها القصور الملكية في تلك العهود.. وفي كتابها تقول - ليدي أنطونيا فريزر - أن التاريخ ظلم ماري انطوانيت ظلما بائنا بينما كانت علي النقيض تماما من صورتها الشائعة تاريخيا.. كانت مرهفة الحس رقيقة القلب مفعمة بالمشاعر الي حد الانفعال والتعاطف الجارف مع المستضعفين وذوي الاحتياجات الي حد لا يكاد يصدق.. وتخيلوا اذن مدي التناقض الصارخ الذي تبينته الباحثة البريطانية لما عرف تاريخيا عن تلك الملكة التعسة عن غير حقيقتها وبناء علي شائعات ووشايات مغلوطة أشهرها ما يتجلي في تلك العبارة المستفزة التي روجت عنها وصارت ترمز اليها كلما خطر ذكرها، تلك العبارة المقحمة عليها التي تنسب اليها عند تساؤلها لما تراه الجماهير من ثورة، فلما قيل لها يعوزهم الخبز ردت بتلك العبارة البلهاء : ولم لا يأكلون الجاتوه ! وتؤكد الباحثة ان هذه العبارة التاريخية التي توارثتها الشعوب لا أساس لها وانما روجت عنها لا أكثر فسجلها التاريخ وكأنها حقيقة واقعة و... يا أيها التاريخ كم من الزيف يكتب باسمك ! جرس إنذار.. الاحد: شيء مزعج وظاهرة جديدة وحذار.. وجرس انذار أرجو ألا نهمله مؤشرا ومغزي ولنسارع الي احتواء الظاهرة ولنداوي من قبل أن يستفحل الامر ويخرج عن نطاق السيطرة ونفاجأ بما نخشي ان نصارح به حتي أنفسنا، نحتوي ولكن بوسائل نرجو أن تليق بمجتمع رشيد لدولة تريد ان تداوي لا أن تضرب أو تبطش و... المقدمة ربما بدأت بخطف حقا ئب النساء في الطريق العام وقد عرفت بمثلها بعض دول اوروبا منذ عقدين.. لكن ما سمعت به أخيرا وتكرر في أسبوع واحد وان لم يخرج الي صفحات الحوادث، فهي ظاهرة تطور جديد وطرأ علي التسول الذي عرفنا مظاهره التي استمد منها نجيب محفوظ شخصية زيطة صانع العاهات في روايته زقاق المدق، أي كان التسول معالمه لدينا تعتمد علي إثارة الشفقة والدعاء ولطالما عرف بامرأة مستضعفة تحمل علي ذراعها طفلا، أو شيخا مظهره يدعو الي الرثاء والعطف، لكن الظاهرة الأحدث تثير انطباعا بدخول الأمور في طور جديد وخطير... التسول ما عاد يستجدي او يدعو لاثارة الشفقة بل اتخذ أسلوبا يقترب من التلويح بالتهديد السافر والخبط بغضب علي السيارات من الخارج أثناء وجود أصحابها بجوارها أو بداخلها خصوصا ان كن من السيدات.. التحول انتقل بالتسول من خانة الاستحياء الي حالة تقرب من الجرأة والتحدي والاقتحام بترديد لغة مفزعة: أنا جعان.. أريد ان آكل.. اعطيني شيئا.. وبأسلوب يقرب من العنف ولو شفاهة، والانكي أن التسول الجديد تحول من غير القادرين المستضعفين الي شباب ورجال سليمي البنية وهذا مكمن الخطر.. هل هي البطالة ؟ الادمان ؟ حالة غليان تحت السطح ؟ علي اي الاحوال لابد من احتواء الامر بحكمة وبهدف العلاج وليس بمجرد الاطاحة ولا القسوة وان كان الادعي ايجاد بوليس نجدة جاهز للاستغاثة في مثل هذه الاحوال فان الله سلم في الحالات التي بلغتني شفاهة من اقارب ومعارف. ما بين القبة وروكسي في مصر الجديدة وشارع مصر والسودان... برناردشو وحادثة دنشواي! من ذا الذي عرف بعلاقة الاديب البريطاني الساخر الأشهر برنارد شو بحادثة دنشواي أعني ما كتبه عنها ؟ ربما من درسوا الأدب الانجليزي او غالبا أقل القليلين.. فيما يخصني أعترف بأنني قد مررت علي المقدمة عندئذ مرور الكرام، و البال مشغول بأمور اخري تدل علي خلو البال فلم أكن قد ابتليت بمهنة الصحافة بعد، حيث تتحول الحياة لدينا الي مقروء ومكتوب.. لانه عندما وقع بين يدي مؤخرا هذا الكتاب القديم فقد توقفت مشدودة ومشدوهة أمام تلك المقدمة التي اختارها شو لاحد كتبه التي تضمنت ثلاث روايات.. ففي هذه المقدمة اختار فيها هذا الاديب الليبرالي ان يمد سخريته الي بلاده من خلال ما حدث لقرية دنشواي... كتب برنارد شو وصفا دقيقا لحادثة دنشواي باسهاب وبأسلوبه الساخر فاذا بهذه المقدمة هي أبدع ما يمكن ان تقرأه عن هذه الواقعة الاكثر سوادا في تاريخ الاحتلال البريطاني... كتب برنارد شو الواقعة بطريقة الحكي بأسلوبه النابض وسخرية تقطر تعاطفا مع فلاحي دنشواي الذين يروي حكايتهم فيصف ما حدث بهذا النحو: دنشواي قرية مصرية صغيرة في دلتا النيل تعرف بأبراج الحمام ثم يقول و كأنه يخاطب كل بريطاني: حاول ان تتخيل مشاعر قرية في انجلترا هبط عليها فجأة فريق من الضباط الصينيين وأخذوا في اصطياد البط والاوز والديوك وسائر الدواجن وكأنها طيور برية لا صاحب لها... ثم يصف كيف حط علي القرية المصرية جماعة من الضباط الانجليز بغرض صيد الحمام، فلما احتج الفلاحون و اعترضوا لم يأبهوا بهم و حدث يوم 13 يونيو 1913 أن استقل أربعة ضباط بريطانيين يرتدون الكاكي سيارة واتجهوا الي هذه القرية يصحبهم ضابط علي صهوة حصان.. خرج اليهم رب عائلة اسمه حسن محفوظ محذرا إياهم من خلال ترجمان كان يصحبهم فما أعاروه أي اهتمام.. بدأ الضباط في اصطياد الحمام فتجمع الفلاحون في احتجاج و حاول أحدهم ان ينتزع بندقية ضابط و خلالها انطلقت أعيرة اصابت ثلاثة بجروح بينهم زوجة أحد الفلاحين ويدعي عبدالنبي، شاب عمره خمسة وعشرون عاما. ويقول برنارد شو: سقطت المرأة علي الأرض جريحة ومغشيا عليها فظنوا انها ماتت.. وهنا يعود برناردشو الي التمثيل بما عساه قد يحدث لقرية في انجلترا مع ضباط صينيين وماذا عساه يكون شعور الفلاحين المصريين سوي مثل شعور قرية في انجلترا هبط عليها ضباط صينيون هبطوا عليهم لاصطياد دواجنهم فأدي احدهم الي قتل زوجة رجل ريفي انجليزي ؟! يقول شو: عبدالنبي والآخرون اشتركوا وضربوا القاتل الذي افترض أنه قتل زوجته ثم توالي الآخرون ضرب الضباط بالحصي والطوب فجري البريطانيون في اتجاه معسكر قريب وكانت شمس الظهيرة المصرية حامية فما ان بلغوا القرية التالية الا وسقط أحدهم صريع ضربة شمس ومات... يعود برنارد شو ليقول ما حدث كان سيحدث مثله لو وقع في قرية انجليزية و يمضي في وصف ما حدث بعد ذلك بأسلوبه الساخر قائلا أنه مراعاة بما حدث لزوجة عبد النبي فقداكتفي الحكم علي الزوج الشاب بالسجن فقط ، مدي الحياة .. و أما الزوجة فيكفي انهم رأفة بها أعتقوها من اتهام السرقة للبارودة التي اخرجت من جسمها.. ثم أن من أجل عبد النبي وحتي لا يشعر بالوحدة في عقوبة مدي الحياة، فقد حكموا علي فلاح آخر بالسجن المؤبد ليكون بصحبته... ثم يعاود السخرية من العدالة التي لم تراع مثل هذه الرأفة مع حسن محفوظ ذلك الذي اعترض علي اصطياد حمامه وتجرأ بان يلوح بعصا في وجوه ضباط بريطانيين فلابد لمثل هذا المتوحش أن يكون عبرة لغيره.. الاعدام لأن المؤبد لرجل في الستين مثله ويبدو في السبعين لن يقضي من العقوبة اكثر من خمس سنوات ثم يعتق بمضيه الي الآخرة، لذا حق عليه الاعدام شنقا و.. تقديرا خاصا لعائلته فليكن الاعدام علنا أمام منزله بينما الزوجات والأبناء والاحفاد يتفرجون علي المشهد من فوق سطح البيت! ثم ينهي شو وخز الابر هذا بقوله: أربعة وشنقوا.. واثنان وحكم عليهما بالمؤبد.. وواحد بخمسة عشر عاما أشغالا شاقة.. وستة كل منهم نال سبع سنوات أشغالا شاقة.. وثلاثة لمدة عام واحد مع خمسين جلدة.. وخمسة باكتفاء خمسين جلدة فقط... وينهي شو مقدمته هذه بقوله " هذه هي العدالة البريطانية والا فلا...! سلام عليك وعلي الليبرالية يا سيد السخرية يا برنارد شو! آخر السطور الازمة الناشبة بين حبيبتنا فيروز وانجال منصور رحباني ادت الي أن نعرف أنفسنا علي حقيقتنا. نحن قوم عواطفنا و عقولنا سداح، لا نعرف أين و متي نفصل بينهما ونفرق، وهذه علتنا وهنا مكمن ضعفنا الذي يغمر سائر أحوالنا... يا أخي ما تدفع فيروز لأبناء منصورحقوقهم.. ليه لأ ؟!
