أظهرت صورة تاريخية لذكريات الثورة الرومانية التي حكى عنها العالم معتبرينها وقتها رمزًا للحرية والثورات القوية، تحديدًا فى عام 1989، إلا أنها تحولت بواسطة نفس الشعب لثورة سخر منها العالم، وديكتاتورية جديدة بعد شاوشيسكو. لقد كان تشاوشيسكو مصابا بجنون العظمة بكل معنى الكلمة، وكان يصف نفسه ب «دانوب الفكر» نسبة الى نهر الدانوب الشهير الذي يمر في بلاده ويشكل أحد شرايينها المهمة.
«رغم ان شعبه كان الأفقر في أوروبا الشرقية إلا أنه كان يرى انه نبي «رومانيا الفاضلة»، وان الرومانيين من اسعد شعوب العالم! وكان يفتخر بامتلاك 5 قصور أحدها يضم ألف حجرة وهو ما لا يملكه احد حتى اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا العظمى! هذا الى جانب قصوره الطائرة (الطائرات الرئاسية) والمتنقلة (القطارات الخاصة به). لكن رغم أهمية كل ذلك لا يُذكر تشاوشيسكو اليوم إلا لكونه أحد القادة الذين أعدمهم شعبهم مع زوجته ايلينا على الملأ في أعقاب أسبوع من التمرد والعصيان الشعبيين في نهاية ديسمبر 1989 وهو ما يصطلح على تسميته ب «الثورة الرومانية 1989» التي أطاحت بنظام تشاوشيسكو. ورغم تأثره ب ستالين لم تكن رومانيا في نهاية الحرب الباردة موالية لنظام موسكو بل كان تشاوشيسكو يميل الى نهج الزعيم اليوغوسلافي تيتو في عدم الانحياز في السياسة الخارجية ويعشق نموذج «كيم إيل سونغ» (والد الزعيم الحالي كيم يونغ إيل) في كوريا الشمالية ويطمح لتقديس أبناء شعبه له! لم يكترث تشاوشيسكو بالتغيرات المحيطة ببلاده وتبني زعيم الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيف الى ال «بيروسترويكا» (إعادة البناء الاقتصادي) وال «غلاسنوست» (الانفتاح وحرية التعبير) ولم يعتقد ان نظامه سيكون الحلقة الأخيرة في مسلسل انفراط عقد الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بل على العكس كان يعمل على اعداد ابنه «نيكو» ليخلفه رغم المشاكل الأخلاقية وادمانه على الشرب والقمار وصيته الذائع في أوساط الشعب. اندلعت شرارة الأحداث في 16 ديسمبر من مدينة تيميسوارا عندما قررت الحكومة طرد المطران الهنغاري باستور بسبب توجيهه انتقادات الى النظام في وسائل إعلام عالمية. ردا على الحادثة خرج السكان الغاضبون في تظاهرات عنيفة لم تفلح الشرطة في التعامل معها رغم توقيف عدد كبير من المتظاهرين. واستمرت التحركات الشعبية يومي 17 و18 ديسمبر مترافقة مع دعوات الى اضرابات شلت البلد وتطورت الى احتلال الموظفين للدوائر والمقار الحكومية مع رفع شعار مثل «نظام تشاوشيسكو سيسقط» و«نحن الشعب». تشاوشيسكو كان في تلك الأثناء بزيارة رسمية الى ايران فطلب من زوجته معالجة الأمور، فأرسلت مندوبين لمفاوضة المتظاهرين وأبلغوهم بالموافقة على اطلاق السجناء ولكنهم رفضوا المطالبات باستقالة تشاوشيسكو. وفي ظل هذه الأجواء انتقلت عدوى الاحتجاج الى بوخارست التي عاد اليها تشاوشيسكو حيث طلب مخاطبة الشعب، وخلال خطابه أمام 110 آلاف ارتأى ان يمتدح «انجازات الثورة الاشتراكية» وما حققه نظامه منذ توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي عام 1965 ثم الرئاسة عام 1974 وحتى 1989 وباستثناء وعده بزيادة الرواتب ب 4 دولارات (نحو 5% من معدل الرواتب حينها) تركز كلامه على تخوين وإهانة المحتجين في مدينة تيميسوارا. كان الخطاب منقولا مباشرة على الهواء لكن البث انقطع واستبدل بكليبات تشيد بتشاوشيسكو وانجازاته ففهم سكان رومانيا الذين كان نحو 75% منهم يتابعون الخطاب ان شيئا ما غير طبيعي كان يحصل. وبالفعل ردد الحضور باستثناء الجالسين بالصفوف الأمامية هتافات منددة بالرئيس دفعته الى قطع خطابه والدخول الى القصر. حاول اكمال خطابه من شرفة القصر لكن الصفير والتنديد وشعارات مثل (ستسقط يا ديكتاتور.. والعقاب للقاتل) أجبرته على وقف المحاولات. أمر تشاوشيسكو رجال الشرطة بقمع المتظاهرين ما أدى الى سقوط مزيد من الضحايا، علما بأن الثورة انتهت بسقوط 1014 قتيلا بينهم 162 في يوم هروب الرئيس لكن المتظاهرين لم ييأسوا بل عادوا الى محاصرة القصر الرئاسي في اليوم التالي (22 ديسمبر) مرددين هتافات أرعبت تشاوشيسكو فسارع الى المغادرة مع زوجته عبر احد الممرات السرية ليستقل مروحيته ويتوجه الى خارج العاصمة بوخارست، ولكن في طريقه الى مخبئه الخاص اكتشفه بعض الفلاحين الذين ألقوا القبض عليه وسلموه الى الثوار الذين كبلوا يديه ويدي زوجته وقاموا بإعدامهما رميا بالرصاص في مشهد نقل مباشرة على الهواء ليتابعه أبناء الشعب ليراه الرومانيون ويقتنعوا بأنه قد قضي على الديكتاتور فعلا. وتابع الجمهور حول العالم اقتحام المتظاهرين للقصر وأعمال السرقة والتخريب التي حلت به. ظن الرومانيون انهم سيحصلون على الديموقراطية التي يحلمون بها ولكن سيطرة السياسيين من رموز المرحلة السابقة في إطار «الجبهة الوطنية للانقاذ» التي ضمت أغلب شخصيات الحزب الشيوعي، أوصلت الرئيس يون ايلييسكو مع 85% من الأصوات في عملية تعرضت لانتقادات كبيرة، واتهمت الجبهة بسرقة ثورة 1989 لكن مع ذلك فاز ايلييسكو ب 3 ولايات من 1990 - 1992 ثم من 1992 - 1996 وأخيرا من 2000 - 2004 حيث هزم في 1996 أمام مرشح التحالف المدني المعارض حينها اميل كوتستانينسكو.