تعتبر كندا من الدول القليلة التي ما زالت تدعو المهاجرين إليها، مع حوالي 250 الف مهاجر إلى البلاد سنوياً، غالبيتهم يعتبرون «مهاجرين اقتصاديين» لبناء حياة جديدة في كندا. وهذا الأمر ليس بالصدفة أو من اجل استقطاب أيدٍ عاملة فقط، بل هو نتيجة واقع ديموجرافي في غاية الأهمية لكندا، فهذه دولة تعتمد على الهجرة الوافدة إليها من اجل الحصول على النمو السكاني المناسب لحجمها. فعلى مسافة 9.9 مليون متر مربع من الأراضي الكندية، هناك فقط 31 مليون نسمة موزعة على 13 محافظة. وبالإضافة إلى ذلك، غالبية الكنديين من اصول انجليزية وفرنسية لا يفضلون إنجاب الكثير من الأطفال، فبين عامي 2005 و 2006 كان عدد المواليد الجدد في كندا حوالي 343 الفاً، بينما عدد المهاجرين إليها كان 254 الفاً، وقد مثلت الهجرة إلى كندا بحسب مؤسسة الإحصاءات الكندية الرسمية 60 %من النمو السكاني منذ عام 1990. والمدهش ان بحلول 2017، يتوقع ان يكون النمو السكاني لكندا معتمداً بشكل شبه كامل على الهجرة. كل هذه المعلومات تضع الحكومة الكندية والمجتمع العام امام سؤال في غاية الأهمية: هل الهجرة والوافدون من كافة ارجاء الكرة الأرضية يضعون الهوية الكندية في خطر؟ بينما أحفاد مؤسسي الدولة الكندية من الانجليز والفرنسيين على حساب سكان كندا الأصليين من الهنود متمسكون بتقاليدهم الخاصة التي تمتد الى اوروبا، وهل يشكل المهاجرون الجدد، وغالبيتهم من آسيا، ظاهرة ثقافية مختلفة. وبينما اصبح الحديث عن تعدد الثقافات امراً دارجاً في اوروبا والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، كان هذا الأمر في فكر السياسيين الكنديين منذ عقود. وبعد إقرار سياسة خاصة بتعدد الثقافات في الحكومة الكندية عام 1971، اصدر البرلمان الكندي قانون «تعدد الثقافات» عام 1985، حيث سعى المشرعون الى مواجهة المشاكل التي قد تخلق من تعارض الثقافات. وينص هذا القانون على ان «تعدد الحضارات يعكس التنوع الثقافي والاثني للمجتمع الكندي ويعترف بحق جميع أعضاء المجتمع الكندي للحفاظ على تراثهم الثقافي وتطويره»، مضيفاً انه «يجب الاعتراف بأن تعدد الثقافات خصلة أساسية من الحضارة الكندية وهوية البلاد وانه مصدر مهم في تشكيل مستقبل كندا». إلا ان هذا القانون وحده لا يكفي والكثير من المسؤولين الكنديين يعترفون بأن القوانين الكندية «ليست مثالية» ولكنها تعطي آلية للتعاطي مع قضية تعدد الثقافات في البلاد. وهناك مشاكل تواجه المهاجرين في كندا، كغيرها من الدول المستضيفة للمهاجرين، بعضها يخص العمل وآخر يختص بالثقافة. ويذكر ان المسؤولين الكنديين يحددون اعداداً سنوية للمهاجرين الوافدين إلى كندا، ويقسمون إلى «مهاجرين اقتصاديين» ومن بينهم العاملون المهنيون والمستثمرون و«مهاجرين غير اقتصاديين» ومن بينهم اللاجئون والذين ينضمون إلى اقارب يسكنون في كندا. وهناك دول تفتح أبوابها للمهاجرين بسبب حاجتها لأيدٍ عاملة، وهناك دول أخرى أصبحت ملاذاً آمناً للاجئين الذين تدريجياً يصبحون جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي. أما كندا، فماضيها بني على ايدي المهاجرين ومستقبلها يعتمد على أمواج جديدة من المهاجرين، إذ تقدر وزارة «التراث» الكندية انه بحلول عام 2025 سيصبح «عدد الكنديين الذين سيموتون أعلى من عدد المولودين الجدد، ما يعني ان النمو السكاني الوحيد سيكون من خلال الهجرة القادمة إلى البلاد». وبما أن كندا تعتمد على الهجرة لتأمين مستقبلها وحياة أفضل، تبنى البرلمان الكندي قوانين خاصة بالهجرة وتأمين التجانس بين الثقافات المختلفة الآتية إلى البلاد منذ عقود. ويدور في كندا اليوم نقاش خاص حول الهجرة وتجانس الثقافات المتعددة بعدما أصبح القادمون من آسيا أكثر بكثير من هؤلاء القادمين من أوروبا ما يعني ثقافات مختلفة عن الأجداد الأوروبيين الذين هيمنت ثقافاتهم على المجتمع الكندي. وتفتخر كندا بنموذج «تعدد الثقافات» التي يحكم مجتمعها، إلا ان موظفي الحكومة الكندية سرعان ما يعترفون بأن «النموذج ليس مثالياً ولكنه الأقل سوءاً بالمقارنة مع غيره» بحسب موظف طلب عدم الكشف عن هويته. إلا ان النموذج ليس ثابتاً، بل متقلب ومتطور بحسب الظروف التي تحكم المجتمع. وبحسب وثائق تصف السياسة الرسمية لكندا في هذا المجال حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، النموذج يتغير حوالي كل عشر سنوات. وتصف وزارة «التراث» هذه المراحل كالآتي: في عقد السبعينات من القرن الماضي إدراج تعدد الثقافات كسياسة حكومية من خلال الاحتفالِ بالتعدد الثقافي من خلال مهرجانات وأمسيات ثقافية. وبعدها كان عقد الثمانينات أكثر تركيزاً على الحفاظ على هذا التنوع الثقافي، من خلال الحفاظ على لغات المهاجرين وما يجلبه إلى المجتمع الكندي من تنوع. دخلت أمور «الاندماج» إلى الساحة السياسية الكندية وكيفية الحفاظ على الهوية الكندية، في ظاهرة مشابهة لدول غربية أخرى. وتهتم وزارة «التراث» الكندية بشؤون المهاجرين واندماجهم في المجتمع الكندي، بالإضافة إلى دراسة نماذج الاندماج في المجتمع الكندي وسبل تطوير تلك العملية. وبينما تضع الوزارة مقترحات لسياسات تتبناها الحكومة ل«إدارة الاندماج» إلا أنها لا تركز على مجموعة معينة من المهاجرين ولا تقوم بمشاريع خاصة بمجموعة معنية منهم، بل تكرس جهودها على المجتمع الكندي ككل. ومن النقاط الرئيسية في النقاش الدائر حول الهجرة في كندا تنحصر في مسألة لغوية اذ يوصف الكنديون المهاجرون من الدول غير الأوروبية أو بالأحرى الانغلوساكسونية والفرنسية بمصطلح «الأقليات الظاهرة». ويستخدم هذا المصطلح في الدوائر الكندية الرسمية لتمييز الكنديين من «مهاجرين يعتبرون من الأقليات التي يمكن تمييزها من خلال مظهرها الخارجي، ويؤخذ في عين الاعتبار ان هؤلاء عليهم التغلب على حواجز معينة للنجاح في المجتمع مثل دخول الجامعات العريقة والحصول على وظائف جيدة بسبب معوقات كخلفية ثقافية مختلفة، مشاكل معينة مثل اللغة أو التقاليد» بحسب مسؤول كندي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه لم يكن مخولاً للحديث الى الصحافيين. الا ان استخدام هذا المصطلح ازداد تعقيداً في الاونة الاخيرة، ففي مدن كبيرة مثل تورونتو اصبح المهاجرون من «الأقليات الظاهرة» ينافسون «الغالبية» في التعداد السكاني، كما انه من المتوقع ان يصبح تعداد المجموعة الاولى اكبر من المجموعة الثانية. وبحسب إحصاءات خاصة بوزارة «التراث» يشكل المهاجرون من «الأقليات الظاهرة» حالياً نسبة 13.4 في المائة من الشعب الكندي، ولكن من المتوقع ان تصبح هذه النسبة حوالي 23 %بحلول عام 2017 أي حوالي 8.5 مليون شخص من «اقليات ظاهرة» خلال 11 عاماً. ويذكر ان عام 2017 يعتبر موعداً مهما لكندا اذ ستحتفل البلاد بعيدها ال150 في ذلك العام. وكان هذا المصطلح في الآونة الأخيرة مصدر انتقاد الأممالمتحدةلكندا، ففي مارس (اذار) 2007 اصدرت «لجنة انهاء العنصرية العرقية» التابعة للأمم المتحدة تقريراً جاء فيه ان «هذا المصطلح نفسه يساهم في نشر العنصرية»، حتى لو كان الهدف هو الحد من العنصرية. واقر عدد من المسؤولين الكنديين الذين التقتهم «الشرق الأوسط» بالمشاكل المعنوية المتعلقة بالمصطلح ولكنه لفتوا الى صعوبة الاشارة الى الاقليات من دون تحديد بلدهم الأم وهو امر تبتعد كندا عنه من أجل تثبيت «الهوية الكندية» المنصوص عليها في قانون «الجنسية الكندية» منذ عام 1971. وفي الوقت الحالي، تقيس الحكومة الكندية نسبة اندماج «الاقليات الظاهرة» من خلال معايير عدة، منها نسبة الموظفين الحكوميين من تلك «الاقليات الظاهرة»، التي تقدر حالياً ب11 في المائة من موظفي الدولة، و7.5 في المائة داخل وزارة الخارجية الكندية. ويذكر ان السفير الكندي في عمان، عارف لالاني، من اصل اوغندي وكان اول من ترأس «مجموعة العمل حول الجاليات المسلمة» عند انشائها. وأشار مسؤولون في الخارجية الكندية إلى ان «المحافظة العامة» ميشيل جين، التي تعتبر ممثلة الملكة البريطانية اليزابيث الثانية في كندا، من «اقلية ظاهرة». وبينما هذا المنصب فخري بسبب انتماء كندا الى الكومنولث، الا انه ارفع منصب في البلاد من الناحية البروتوكولية. ولم تكن جين الأولى، فكانت خليفتها اندريان كلاركسون، الصينية الاصل، اول «محافظة عامة» من اصل غير اوروبي يتبوأ هذا المنصب عام 1999. ويعتبر هذا تطورا مهما في اندماج الاقليات في المجتمع الكندي، وايضاً في الاطار السياسي. واظهر احصاء وزارة «التراث» ان غالبية المهاجرين الجدد الى كندا سيكونون من آسيا. فأكثر من مليون منهم سيكون من جنوب آسيا و735 الفا من الصين بحلول 2017، وسيكون 40 في المائة من الكنديين من اصول صينية في تورونتو. وبينما غالبية المهاجرين في فانكوفر سيكونون من الصين، الأمر مختلفاً في مونتريال حيث من المتوقع ان يكون العرب والافارقة لهم تميز مميز. ولكن على كل الأحوال، هذه الاعداد من المهاجرين تمثل ثقافات مختلفة عن ثقافات الكنديين من اصول اوروبية. ولا يمكن الحديث عن الهجرة وتعدد الثقافات في كندا من دون التطرق الى كبرى مدن كندا تورونتو التي تقع في محافظة اونتاريو التي يتوجه حوالي 50 في المائة من المهاجرين الجدد اليها. وتورنتو تعكس التعدد الثقافي في كندا، حيث 52 في المائة من سكانها ولدوا خارج كندا ويتحدث سكانها اكثر من 250 لغة. ومن المرتقب ان يصبح نصف سكان كندا من اصول غير اوروبية بحلول 2017 . وأظهر التعداد السكاني لعام 2006 ان واحد من كل 13 كنديا يسكن في تورنتو، اذ تعدادها 2.5 مليون نسمة ويعد تعداد كندا الاجمالي حوالي 31 مليون كندي. وبينما تمتزج الثقافات واللغات في اونتاريو، هناك فارق كبير في مقاطعة كيوبك يرتكز على الهوية الفرنسية. فبينما تشكل الانجليزية اللغة الدارجة في كندا ويتحدث معظم سكانها الانجليزية، تحرص كيوبك على المحافظة على اللغة الفرنسية بين سكانها في اشارة الى محاولتها الاحتفاظ بهوية فرنسية تفصلها عن باقي سكان كندا. وعلى الرغم من ان الصراع بين كيوبك والمطالبة بالاستقلال جزء من التاريخ الكندي وحاضرها السياسي، إلا ان هذه المسألة تؤثر كثيرا على سياسة المقاطعة فيما يخص الهجرة. وشرحت مسؤولة «اللجنة المستشيرة لحكومة كيوبك لشؤون تعدد الثقافات»: «على المهاجرين ان يعلموا ان الهوية الفرنسية هي الأولى»، مضيفة في رد على سؤال ل«الشرق الأوسط»: «الأفضلية في استقبال المهاجرين هنا تعود إلى الذين يتحدثون الفرنسية». وذلك يعني ان الكثير من ابناء المستعمرات الفرنسية السابقة، مثل المغرب وغيرها، يفضلون الاتجاه إلى كيوبك. وعلى الرغم من ان اوتوا تريد فرض الهوية الكندية على كافة البلاد، إلا ان كيوبك تركز على الهوية الفرنسية. وبينما تدور النقاشات في الأوساط السياسية والثقافية الكندية حول الهوية والتناغم بين هوية البلد الأم والبلد المضيف، يبقى واقع المهاجرين منحصراً في احتياجاتهم من التعليم إلى الوظائف وحاجتهم إلى بناء حياة جديدة في «العالم الجديد» الذي خلق مع القارة شمال اميركا.