هذه القرية حجبت الشمس عن وجه أبوالهول.. بعد أن ظلت الشمس أكثر من أربعين قرنا من الزمان تطل علي وجهه وتقول له كل صباح: صباح الخير يا كاتم أسرار مصر! القرية اسمها نزلة السمان، وأعتقد أنه قد آن الأوان لكي نفكر بجدية في نقل هذه القرية التي تقبع فوق أهم أرض أثرية في مصر يرجع تاريخها إلي خمسة آلاف عام. وقد جاء حادث سرقة الآثار الأخير الذي أودي بحياة ستة من اللصوص كجرس إنذار لكي يتم تنفيذ ما أنادي به دائما ومنذ أكثر من عشرين عاما بضرورة إيجاد حلول حاسمة لقرية نزلة السمان دون الإضرار بأهلها ومصالحهم، وفي الوقت نفسه، نحافظ علي أهم موقع أثري ليس في مصر فقط، وإنما في الدنيا كلها.. وهذا ليس بغريب، ففي هذا المكان لاتزال العجيبة الوحيدة من عجائب الدنيا السبع القديمة قائمة حية بيننا، وهي هرم الملك خوفو الكبير أعظم بناء معماري أبدعه المهندس المصري القديم! لقد قضيت معظم حياتي العملية كمفتش وكبير مفتشي ومدير لآثار الأهرامات، وأنا أعرف طبيعة هذه القرية وأهلها وأكاد أجزم بأن معظمهم يعرف تماما ويقدر قيمة المنطقة الأثرية التي كانت ولاتزال تدر عليهم ذهبا.. ومعظم مهنهم وأعمالهم ترتبط بشكل مباشر وغير مباشر بوجود الأهرامات والسياحة، وقد حان الوقت لكي تتعاون جميع جهات الدولة المعنية مع المجلس الأعلي للآثار لإيجاد حل دائم لمعضلة نزلة السمان. والحل في رأيي هو نقل القرية إلي مكان آخر قريب يتم اختياره بكل دقة لكي نحقق المطلبين، وهما: توفير مكان لائق بآدمية أهل النزلة وبه كل مقومات الحياة، وفي الوقت نفسه، لا نحرم هضبة الجيزة من أن تتنفس مرة أخري بعد أن تكالبت عليها البيوت وسدت عنها شمس المشرق حينما كانت تشرق كل صباح علي وجه أبوالهول والأهرامات. ولعل الحادث الأخير الذي راح ضحيته ستة من المواطنين بنزلة السمان يحمل بين طياته مؤشرا خطيرا لما حدث في التركيبة السكانية لأهالي النزلة. فمالك المنزل الذي حفروا تحته.. هو نجل الريس منجود الذي عمل في ترميم أخشاب مركب الشمس مع المرحوم العبقري الحاج أحمد يوسف، أي أن هذا الابن تربي من خير الآثار، وبدلا من الحفاظ عليها مثلما فعل أبوه الذي توفي- رحمه الله- وهو في سن75، نجد أنه استأجر بعض اللصوص لكي يساعدوه في الحفر والبحث عن الآثار والكنوز المخبأة والمومياوات! ويقع منزل الريس منجود بمنطقة عند المنطقة التي نعرفها بسن العجوز، وتشغل حافة الجبانة الشرقية لهرم الملك خوفو، وبهذه الجبانة إضافة إلي مقابر الأسرة الملكية من أميرات وأمراء ينتسبون مباشرة إلي الملك خوفو وبعض كبار الموظفين من الأسرة السادسة توجد أربعة أهرامات بناها الملك خوفو لزوجاته الثلاث، إضافة إلي هرم عقائدي صغير يرتبط بعقيدة الملك المتوفي، وهذا الهرم الأخير هو ما كشفت عنه حينما كنت أجري الحفائر في المنطقة. وبالقرب من حافة منطقة سن العجوز، شيد كبار موظفي الأسرة السادسة مقابر مقطوعة في الصخر كشف عن بعضها المرحوم العالم الجليل أحمد فخري، وقد قمت بعمل حفائر في هذا الموقع عام1977، خاصة في المنطقة شمال شرق أبوالهول. وقد كشفت حفائري عن مدخل مقبرة منحوتة في الصخر، وقمت بالنزول لمسافة تقرب من12 مترا داخل صخر الهضبة، وتعود المقبرة إلي زمن الأسرة الرابعة (2575 ق.م)، وقد استعملت للدفن مرة أيام العصر الصاوي نحو(600 ق.م)، وفي هذا العصر، بدأ الفراعنة يدفنون موتاهم إما داخل حفر حول أبوالهول أو أنفاق في تمثال أبو الهول نفسه، وذلك تبركا بالإله حور إم آخت وهو اسم أبو الهول الذي حمله منذ عصر الدولة الحديثة، كذلك قاموا ببناء مقابر بئرية خلف التمثال في صخر الهضبة، وهي مقابر عبارة عن بئر ضخمة منحوتة في الصخر تؤدي إلي حجرة دفن أو أكثر في نهايتها. نعود إلي المقبرة التي كشفنا عنها في المنطقة شمال شرق أبو الهول المواجهة تماما لقرية نزلة السمان.. فعندما دخلنا إلي المقبرة وجدنا أنها تتكون من حجرات عديدة ويحمل صاحب المقبرة لقب المشرف علي بناء المقابر، وبعد ذلك وجدنا العديد من الدفنات التي ترجع إلي العصر الصاوي والعصر المتأخر، وهي عبارة عن هياكل عظمية منتشرة في حجرات المقبرة، بالإضافة إلي أوان فخارية من العصر نفسه. وقد كانت عملية الحفر صعبة جدا وتتطلب بصفة دائمة تدخل مهندس معماري لكي يمنع انهيار الجبل علي العمال، وإضافة إلي وجوده، كان هناك المرممون لأخذ كل الاحتياطات العملية في أثناء أعمال الحفر. وكان من أهم النتائج التي أدت إليها حفائرنا هي أن هذه المقابر قد نهبت بالكامل في العصور المتأخرة، واستعملت للدفن ولا توجد بداخلها مومياوات أو ذهب أو آثار مهمة.. ومما لاشك فيه أن المطالع لصفحات الحوادث بالصحف ووسائل الإعلام المختلفة يدرك أن حمي البحث عن الآثار أصبحت موضة بين الناس، ولم تعد وقفا فقط علي اللصوص المحترفين، فكثيرا ما يتم ضبط مواطنين عاديين في هذه القضايا ليس لهم صحيفة سوابق ولم يتهموا بأي تهم من قبل.. الأمر الذي يشير إلي أن الناس ينظرون إلي الأمر نظرة مختلفة، بل إنهم يستحلون البحث عن الآثار وبيعها لحسابهم ولا يعتبرونها سرقة،وهو أمر جد خطير، بل أكاد أجزم بأنه يؤدي إلي تدمير جزء مهم من تاريخنا وحضارتنا، وعلي رجال الدين الإسلامي والمسيحي أن يبينوا للناس خطورة هذا الأمر، وخطورة الاتجار في الآثار أعتبره خيانة وطنية عظمي، حيث إنه يحرمنا من إضافة معلومات مهمة إلي تاريخنا القديم. وقد يعثر أي مواطن داخل منزله أو في أي مكان علي حجر عليه حروف هيروغليفية، وسرعان ما ينتشر خبر العثور علي كنز ذهبي بين مواطني القرية أو المدينة ليبدأ السيناريو الأسود، وتضيع بسببه أرواح وتشرد أرواح أخري يكون الأطفال من بينهم، ويساعد انتشار الشائعة في بلادنا في أن يصبح خبر العثور علي حجر صغير بين يوم وليلة خبرا عن كنز من الذهب والألماظ والجواهر الكريمة. وهناك رسائل علي الموبايل كلها متشابهة تتحدث عن محمد يطلب من أخيه أحمد الحضور من القاهرة فورا إلي بلده في الصعيد لأن والدته تنتظره لقسمة نصيبه في كنز الآثار، وهناك آلاف من القصص الوهمية التي تصلني، بل هناك العديد من الصحفيين يأتونني للسؤال عن الحادثة الفلانية وعن حقيقة ال( سي. دي) الذي يوضح مكان مقبرة ضخمة موجودة بالشارع الفلاني في إحدي قري الصعيد أو الدلتا!! وفي الحقيقة فإنه وحتي الآن لم يحدث أن وجدنا قصة حقيقية أو كنزا حقيقيا.. وفي كل مرة يذهب فريق من الأثريين والشرطة للمعاينة، وفي النهاية نجد أن ما حدث مجرد وهم كبير وشائعة مصدرها دائما مجهول. الأمر المؤكد هنا أن العديد من مدننا وقرانا مقامة فوق الآثار تماما. أي مقامة فوق جبانات ومدن قديمة.. وعلي سبيل المثال، نجد أن مدينة أسوان تقوم فوق المدينة الأثرية القديمة، وهناك بعثة سويسرية-مصرية مشتركة تعمل في المسح الأثري لشوارع المدينة للكشف عن الآثار قبل وضع كابلات الكهرباء ومواسير المياه والصرف الصحي أو أي مشاريع خدمية لأهالي المدينة يكون من ضمنها أعمال الحفر.. وقد عثر حتي الآن علي بقايا المدينة القديمة، ولكن لم يعثر علي كنوزأو خبايا مومياوات. وهناك في أخميم التل الأثري الذي أقيمت عليه المدينة وزارها المؤرخون العرب وأشاروا إلي وجود معابد مخصصة للإله مين إله التناسل أكبر حجما من معابد الكرنك وأسفل المنازل كشف عن تمثال ضخم للملكة مريت آمون ابنة رمسيس الثاني، والذي كشف له عن تماثيل ضخمة أخري داخل جبانة المسلمين الحديثة، وقد أنفق المجلس الأعلي للآثار ما يقرب من 100 مليون جنيه إلي الآن ليتم نقل الجبانة إلي مكان آخر والكشف عن بقايا المعبد الضخم الذي أقامه الملك رمسيس الثاني، ويقوم الأهالي ليلا بالحفر داخل أفنية منازلهم ليعثروا علي الفخار وبقايا آثار العصر المتأخر. وقد أعدنا لوحات منقوشة بالهيروغليفية سرقت من أخميم عن طريق المباحث الفيدرالية FBI بنيويورك نقلها من مصر تاجر آثار لبناني محكوم عليه بالسجن في قضية الآثار الكبري المعروفة. أما عن المنيا- خاصة قرية الشيخ عبادة والأشمونين- وكذلك الإسكندرية.. فالحفر عن الآثار يتم علي قدم وساق داخل المنازل والبيوت، وأصبحت الأرواح التي تزهق بحثا عن الآثار تنافس نزيف الأسفلت في بلادنا.. فإما المواجهة والعلاج الكامل وإما انتظار مزيد من الكوارث.. نقلاً عن جريدة الأهرام المصرية*