«لغاية في نفس يعقوب» تمّ الترويج لخطاب الرئيس باراك أوباما الأخير، وكأن التاريخ سوف يلبس لبوساً مختلفاً بعد الرابع من حزيران. إذ وكأن الشحّ الذي يشعر به المسلمون في حركتهم على الساحة الدولية ليس كافياً، أو ربما بسبب ذلك، تم الاستثمار في الخطاب وكأنه مؤشر أساسي للتغيير المنشود في السياسة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط. وهذا بحدّ ذاته مؤشر على حالة الترهل التي وصلت إليها الأوضاع العربية فكانت الساعة الواحدة موعداً للجميع كي يتسمّروا أمام شاشاتهم ليحلموا وكأن «الحقوق تعاد إليهم»، و«العدالة تتجذر» بقدرة خطيب صاغ كلمات خطابه خبراء عرب ومسلمون ويهود كي يغادر جمهوره الشاشة مهنئين أنفسهم على حسن استماعهم الذي لن يتطلب منهم التفكير أو العمل أو الكبر على الجراح أو مواجهة التحديات. ومن ناحية المبدأ فإن الرجل الأسمر الذي حققت مسيرته الشخصية مثالا يحتذى لأي مهاجر إلى الولاياتالمتحدة يستحق ذاك القدر من الفضول، كما أن «التغيير» الذي وعد به ضمن سياق حملته الانتخابية بعد ثماني سنوات من العنف الدموي الرسمي الأميركي ضد المسلمين زاد من حدة هذا الفضول، فضلا عن وصول الأزمات، التي سببها قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين، في منطقتنا إلى طريق مسدود بسبب ارتهان السياسات الرسمية العربية للإرادة الغربية، وكذلك بسبب التحالف الأميركي مع إسرائيل. ولم يخيّب الخطيب آمال من كان يبحث عن متحدث لبق وخطاب منمق جمع المجد من أطرافه وحقق توازناً يحسب له في ملامسة كلّ القضايا الساخنة دون أن يقدّم للضحية شيئاً أو يزعج الجلاد بشيء. ولِمَ لا، أو ليس هو رئيس الولاياتالمتحدة التي عانت سمعتها ومصداقيتها الكثير بسبب سفك دماء الملايين من المسلمين في حروب بوش على الإرهاب الذي ساواه رسمياً بالإسلام. فكان واجبه الأول تجاه بلده هو أن يشطب هذه الآثام من ذاكرة المسلمين، حتى دون أن يذكر حرب بوش على العراق التي أدت إلى مقتل مليون عراقي والذي اعترف أنها «لم تكن حرباً ضرورية»، بيد أن هذا الاعتراف الخجول والمدروس بجملة معترضة غير كاملة لم يرق إلى مستوى الاعتذار ولم يلامس، من قريب أو بعيد، معاناة مليون أرملة عراقية ترملت بسبب الحرب الأميركية على العراق وأكثر من مليوني يتيم دمرت حيواتهم ديمقراطية بوش التصديرية وكأن الولاياتالمتحدة لا تتحمل مسؤولية جرائم الحرب، ومعاناة هؤلاء من ملايين البشر، ومسؤولية الدمار الذي لحق بهم بسبب هذه الحرب الظالمة، بل أهمل الإشارة إلى قراره بعدم محاسبة مجرمي الحرب، وجلادي السجون السرية، وغرف التعذيب المخابراتية. لا يحتاج أوباما إلى شهادة بأنه خطيب مفّوه يتقن استخدام اللغة، ويشكّل وجوده في موقعه إضافة هامة إلى القيم الأميركية التي روّج لها، وتغنّى بها، ووعد على تزكيتها للشعوب الأخرى، ولكنّ حقيقة المواقف التي عبّر عنها سواء بالنسبة للعراق أو فلسطين أو مصر أو لبنان لا تقدّم إضافة جديدة لإرساء أسس العدالة، بل إنها وضعت سابقة خطيرة أمام الشعب الفلسطيني، وهو حثه على التخلي عن المقاومة التي سماها «العنف» دون أن يحث إسرائيل على رفع الحصار أو إنهاء الاحتلال وإيقاف سياسة القتل والمجازر والاغتيال أو يعد، مجرد وعد، بحماية الفلسطينيين من الاضطهاد الإسرائيلي الذي حرمهم من الحرية أكثر من ستين عاماً في حين أن بلده الأصلي كينيا تحررت من الاستعمار البريطاني بالمقاومة المسلحة، وبالواقع تحررت كل الشعوب بما فيها شعب الولاياتالمتحدة باستخدام المقاومة والتي أسماها «العنف». في القسم المتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي بشكل خاص أتى خطاب أوباما مخيّباً للآمال بالفعل. فما هو الجديد إذ أن حل الدولتين قد اقترحه الرئيس بوش ووعد بتحقيقه وحدد له تاريخ نهاية ولايته وإن لم يفعل ذلك. خطاب أوباما لم يكن مخيّباً إلا عندما تعلق الأمر بالعرب، ولكنه كان حازماً في كل ما يتعلق باليهود، فقد أكد بلغة لا تقبل الشك قتل ستة ملايين يهودي على يد النازيين الألمان في المحرقة، في حين لم يذكر المحرقة التي ارتكبها اليهود في غزة عندما قتلوا آلاف الأطفال والنساء والمدنيين بالقنابل الفوسفورية التي كانت تلقيها الطائرات الحربية الأميركية الصنع على منازل المدنيين أمام أنظار العالم. وبما أن غزة ليست على سطح القمر كان بإمكانه أن يزور مشاهد محرقة اليوم قبل أن يفاخر بزيارة نصب المحرقة في ألمانيا. والمسألة ليست مسألة عدد، خاصة وأنه قد اقتبس من القرآن الكريم في الخطاب نفسه «أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً»، فما باله لا يدين بحزم قتل الأطفال والنساء في غزة عام 2009 أو يشير حتى لضحايا الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وما باله لا يدين بالحزم نفسه استخدام إسرائيل القنابل الفوسفورية والعنقودية وقصف المنازل بالصواريخ وتدميرها بالجرافات في القدس وتهجير المسلمين والمسيحيين من السكان الأصليين في فلسطين وحرمانهم من حق العودة إلى بلدهم فلسطين؟. أطنب أوباما في الحديث عن العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين واليهود ولكنه لم يذكر كلمة واحدة عن الجهود القائمة لتهويد إسرائيل، أي حرمان أتباع الديانات الأخرى من الحقوق والحريات وتعريضهم رسمياً لسياسات عنصرية وقوانين إسرائيلية تناقض كل ما تحدث عنه أوباما من قيم تسامح وتعايش. صحيح أن أوباما كان حازما عندما أكد أن بلاده ملتزمة بأمن إسرائيل ولكنه تخلى عن قيم العدالة عندما تخلى عن أمن الفلسطينيين الذين يتعرضون، يومياً، ومنذ أكثر من ستين عاماً، للقتل والاغتيال وتجريف الأراضي ومصادرتها وحرمانهم من حق التنقل والتعليم والعيش بحرية وكرامة. الحديث عن الديمقراطية سهل ولكن لماذا أهمل الرئيس أوباما الإشارة إلى أن رئيس البرلمان الفلسطيني المنتخب عزيز الدويك وثلاثين من أعضاء البرلمان المنتخبين يقبعون في السجون الإسرائيلية منذ انتخابهم من قبل شعبهم؟. لقد تنكّر الرئيس أوباما لحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الأجنبي دون أن يدين الاحتلال الإسرائيلي الوحشي، فالاستيطان هو نتيجة احتلال عنصري يسمح بمصادرة أرض شعب كي يستوطنها أناس غرباء يأتون من بلدان أخرى كما حدث في جنوب إفريقيا وزيمبابوي وغيرها، فالاستيطان هو وجه واحد من أوجه العنصرية التي تمارسها إسرائيل. عجز أوباما عن الوضوح عندما تحدث عن الستين عاماًَ من المعاناة الفلسطينية على يد «الناجين من المحرقة»، فقد ساوى بين الجلاد والضحية، وصاحب الأرض مع سارقها، ليتوجه باللوم إلى القدر بدلا من المعتدي. السؤال هو هل كان اختيار الرابع من حزيران مقصوداً والعرب جميعاً في مبادرتهم وافقوا على عملية سلام تعيد إسرائيل إلى خط الرابع من حزيران؟ وهل كان تناوله للمبادرة العربية محاولة لدفع العرب والمسلمين إلى تقديم المزيد من التنازلات للمستوطنين اليهود الذين يواصلون كل يوم بناء المزيد من المستوطنات التي تبتلع الأرض والمياه وتهجر السكان؟ ويمكن لي أن أحلل الخطاب في كل نقطة أساسية من نقاطه لأستنتج، في النتيجة، أنه خطاب علاقات عامة تجاه العرب لتنظيف صفحة الولاياتالمتحدة من ردود أفعال العرب والمسلمين على سياسات بوش، فأبدى لأول مرة من قبل رئيس غربي احتراماً للقرآن المجيد، والمسلمين ولكنه لم يقل جملة واحدة شجاعة ترسل رسالة مختلفة بأن هذا الرجل مصرّ على تحقيق العدالة وإعادة الحقوق إلى أصحابها الشرعيين وفق قرارات الأممالمتحدة ذات الصلة. وبالمناسبة لم يذكر الرئيس أوباما أي مرجعية دولية أو مرجعية سلام أو مبدأ الأرض مقابل السلام، بل بدلا من ذلك قام بخطوة خطيرة، هي أخطر وأهم ما جاء في الخطاب، وهو تنكره لحق المقاومة وتسمية المقاومة بالعنف، والتغاضي عن حقيقية أن المقاومة هي رد فعل لا بد منه لإزالة الاحتلال الأجنبي الذي يستخدم التحالف مع الولاياتالمتحدة لإزاحة السكان العرب من مدنهم وقراهم، وتهجيرهم من أرضهم وإحلال المستوطنين الأجانب المتطرفين المسلحين مكانهم فهو لم يدعُ إلى توقف المستوطنين والجيش الإسرائيلي عن قتل وتهجير وإذلال الفلسطينيين. وبعد أن انتهى الخطاب ها نحن نعود إلى واقعنا وننظر حولنا لنتذكر الحقيقة البدهية وهي أن الرجل القادم من وراء البحار ليس قادماً لحل مشكلات العرب ولا إنهاء الحرب على الإسلام، فالسياسات والإجراءات التي وضعها بوش والحروب التي شنها بوش وتشيني ورامسفيلد ما زالت مستمرة لأنها لا تزول بخطاب بل هي مكرسة عبر قوانين ومؤسسات رسمية ومفاصل يسيطر عليها المؤيدون لسياسات إسرائيل الاستيطانية والعنصرية. ولذلك فهو لن يستطيع فعل شيء، حتى لو أراد، فمنظمة إيباك له بالمرصاد. ولذلك فإن المسؤولية الأولى والأخيرة لاسترداد الحقوق العربية وللدفاع عن المدنيين العرب تقع على ذوي الشأن وأصحاب الحقوق والمدافعين عن القضية. فهل يكفّ البعض عن تضخيم أثر الزائرين إلى بلادهم حالمين باستقدام عناصر القوة من الآخرين؟ المطلوب أن يعود العرب إلى رشدهم وذلك بنبذ الاستقواء بالأجنبي الحليف لإسرائيل والتوجه نحو التفكير بعوامل القوة النابعة من توحدهم وتضامنهم واستثمارها لصالح الأمة ومستقبلها؟ هذا هو الخطاب الأهم قبل خطاب أوباما وبعد خطاب أوباما، اليوم، وفي المستقبل، لأن هذه الإرادة الواعية المؤمنة بقواها الذاتية وبإمكانات شعبها وبعدالة قضاياها، هي الوحيدة الكفيلة بوضع حدّ للخطوب التي تهدد وجودنا وتتحكم بأقدارنا، وليس خطاب أوباما إلا حديث عابر لا يتوقع منه أن يترك أثراً على حياتنا وقضايانا. الشرق الأوسط*