القدس : 14/2/2008 ليست هناك دولة أو منطقة في العالم، تختلط فيها الأوراق وتتعقد المشاكل وترتبك الجهود، مثل ما نحن عليه اليوم. فرغم خطورة الأزمات التي تعصف بنا وتهدد حاضرنا ومستقبلنا، ورغم الضجيج السياسي والصخب الإعلامي الذي يتحدث عن الحلول والمصالحات والتوفيق والتوافق، إلا أن كل أزماتنا تراوح مكانها، من أزمة الفقر والاحتقان السياسي، إلى أزمة الحروب والصراعات التي تزأر بوحشية. كنت في الأسبوع الماضي أجلس إلى دبلوماسي عربي متابع لأزمات المنطقة، ودار النقاش حول دور القمة العربية في التصدي لهذه الأزمات، فقال إني قرأت ما كتبته بعنوان تلغيم القمة العربية بدمشق بتاريخ 23 كانون الثاني الماضي في هذا المكان، وأؤكد لك أن حل العقدة اللبنانية هو الأمل الوحيد في عقد قمة دمشق، فلا أتصور أن دولا عربية فاعلة خصوصا السعودية وربما مصر، ستذهب بتمثيل رئاسي إلى دمشق بينما عقدة لبنان تزداد التهابا وتتسرب عبر الحدود.. وهذا أحد تجليات خلط الأوراق. قلت، نعم هذا صحيح من وجهة نظري أيضاً، ولكن خلط الأوراق لم يعد مقصورا على الأزمة اللبنانية، ولكنه يمتد بالضرورة إلى الأزمتين العراقية والفلسطينية، وصولا للأزمة السودانية التي تهدأ قليلا في الجنوب لكي تشتعل في الغرب، ثم امتداداً للهاجس الأمني الذي يظلل دول الخليج العربي سواء بسبب الأزمة النووية الإيرانية، أو بسبب تكدس القواعد والجيوش الأجنبية هناك، تسن أسنانها وتجهز صواريخها لاحتمالات مواجهة عسكرية شرسة. وأعتقد أن لعبة خلط الأوراق تجري بدقة أحيانا، وبعشوائية ملحوظة أحيانا أخرى، ذلك لأن الأيدي اللاعبة بهذه الأوراق تتعدد وتختلف أو تتلاقى باختلاف المصالح، والمؤكد أن الأطراف العربية، اللاعبة أو المغلوبة على أمرها هي وحدها التي تدفع الثمن الباهظ، من أمنها واستقرارها، مثلما من ثرواتها وأموالها. وما شجع على كل هذا الخلط والارتباك الخطير، هو ضعف التنسيق العربي، ولا نتكلم بالطبع هنا عن وحدة المواقف العربية، فلا نعتقد أن المواقف العربية قد عانت في أي مرحلة ماضية، من غياب التفاهم والتنسيق والتعاون، مثلما تعاني الآن، والأسباب كثيرة منها ضعف الإرادة السياسية وتواري الاستقلال الوطني وغياب الحرص على المصالح القومية الجامعة، مقابل شراسة الحكم والحرص على المصالح الشخصية أو القُطرية، دون النظر إلى المصالح العامة عبر المنطقة. في معالجة أزمة غزة وانفجار أهلها عبورًا للحدود المصرية بمئات الآلاف، على سبيل المثال، ثبت من تطور الأحداث أن سياسة خلط الأوراق قد وجدت طريقها بصورة واضحة، فالاجتياح الذي تصورناه عشوائيا، لم يكن عشوائيا صرفا، ولكن أطرافا عدة خططت له ودفعت لتنفيذه على نحو ما جرى، وربما بأخطر مما حدث، لكن العصبية والعشوائية لم تستطع أن تفرز الأوراق المختلطة بدقة كافية.. ونقول إن أطرافا أمريكية وإسرائيلية، وعربية وإيرانية، وفلسطينية ومصرية شاركت في خلط الأوراق، ولعبت أدوارا مختلفة لاشتعال جبهة غزةسيناء لتخفيف الضغط على جبهة فلسطين إسرائيل، وربما يكون هذا هو أحد العوامل التي دفعت بعض الإعلام المصري مثلا إلى التشدد والمبالغة في خطر الغزو الفلسطينيلسيناء، وضرورة دفعه وردعه بعيدا عن حدود الوطن، بينما نعلم جميعا أن غزة وهي جزء من فلسطين كانت وستبقى على حدود الوطن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. بالمقاومة الوطنية، نجحت حماس في استقطاب تعاطف شعبي هائل، لكن بوقوع حماس في لعبة خلط الأوراق، حين دفعت مئات الآلاف لكسر الحدود المصرية بالطريقة التي تمت بها مع بعض التجاوزات التي وقعت خلالها، خسرت حماس جزءاً مهماً من هذا التعاطف، وأظن أن مخاطر خسارة أي فلسطيني للدعم المصري رسميا وشعبيا مغامرة فاشلة، لأن مصر كانت وستظل ظهر فلسطين وسندها التاريخي. وبالمقابل فإن الهجوم الذي جرى من البعض في مصر، ضد حماس واتهامها بالخيانة والغدر بمن يساند قضيتها الوطنية، قد احتد إلى درجة خلط الأوراق بصورة خطيرة، لا تحقق مكسبا، ولكنها تسيء إلى الجميع، وتخدم المخطط الأمريكي الإسرائيلي على طول الخط، فما أسعد هؤلاء أصحاب المخطط حين يرون المعارك السياسية والمواجهات العسكرية تندلع بين المصريين والفلسطينيين. ولذلك يخطئ الجميع، وفي المقدمة بعض الفصائل الفلسطينية، وبالتحديد حماس لو تناسينا الخطوط الاستراتيجية وتجاهلنا المبادئ الأساسية، وهي ان إسرائيل هي الخصم الرئيسي، وان تحرير الأرض المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة هو الهدف الأول، وان كسر الحصار المفروض على الفلسطينيين ضرورة من ضرورات العمل الوطني والقومي، وهذه ضرورة تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى الدول العربية وأولها مصر. ولا أتصور أن هناك مصريا أو فلسطينياً واحداً يغامر بالوقوع في خلط الأوراق الحالي، والهادف إلى الإيقاع بين مصر والفلسطينيين، سواء كانوا من فتح أو من حماس أو من غيرهما، وصولا لحدوث اشتباكات مسلحة عبر الحدود لتعريب الصراع، وتحويل دفته بعيدا عن أمن إسرائيل فهذه جريمة لا تغتفر لمرتكبيها، وتفسح مجالات الارتياح أمام إسرائيل ومخططاتها. الآن بعد أن هدأت الخواطر المهتاجة والمشاعر الجياشة نتيجة أحداث غزة مع الحدود المصرية، وبعد عجز المغرضين عن تطويرها نحو الأسوأ، علينا أن نعيد التدقيق في الأهداف الرئيسية لخلط الأوراق تحديدا من خلال هذه الأزمة، ونظن أن هناك ثلاثة أهداف ظاهرة واضحة هي: * أولا: ثبت أن دفع مئات الآلاف لاجتياح حدود شرعية، وبطرق غير شرعية، إنما هو بروفة تمهد الرأي العام العربي والدولي لبحث وتنفيذ المشروع الإسرائيلي بتوطين الفلسطينيين في سيناء الواسعة قليلة السكان، وهو المشروع الذي أعده عوزي أراد وجودعون بيجر وطرحاه للمناقشة في إسرائيل وأمريكا وأوروبا، حلاً لاختناق غزة، ولقضية اللاجئين الفلسطينيين المقدر عددهم بنحو خمسة ملايين. وهناك دعاوى كثيرة حول هذا الموضوع يجري الترويج لها إقليميا وعربيا، حتى إذا ما تهيأت الظروف واحتكمت الأزمة، كان المشروع الجديد جاهزا ومقبولا من جانب أصحاب القرار الدولي. * ثانيا: سواء كان الاجتياح الفلسطيني للحدود المصرية، قد حدث نتيجة مخطط دقيق، أو جاء تلقائيا نتيجة الجوع والمرض والفقر تحت قسوة الحصار الإسرائيلي، فإن الجميع لم يقدر جيدا حدة الانزعاج المصري تجاه قضية تدخل في باب السيادة الوطنية، وحين جاء رد الفعل المصري قويا، تفهم الغافلون واقتنع التلقائيون بأن المدبرين كانوا هناك في خلفية الصورة ينتظرون! والأمر يحتاج إلى تنظيم جديد لا يسمح بكسر الحدود والإساءة إلى السيادة الوطنية المصرية، ويسمح في الوقت نفسه بأن تظل البوابة المصرية مع حدود غزة هي النافذة الرئيسية للتنقل والسفر والتزود بالمؤن المعيشية والطاقة والكهرباء، حتى لا تظل إسرائيل تحاصر مليوناً ونصف المليون فلسطيني في سجن غزة، وتمارس لعبة خلط الأوراق لتحقق مكاسبها وحدها على حسابنا جميعا. * ثالثا: كلما اقترب موعد القمة العربية المقرر انعقادها بدمشق في 27 آذار القادم، زادت لعبة خلط الأوراق وتعقيد الأزمات وتحريك الخلافات من العراق إلى فلسطين إلى لبنان، والهدف هو تعميق الانقسام العربي حتى لا تنعقد القمة، أو إذا انعقدت تفشل وترسخ الانقسام بين ما يسمى محور المتشددين، ومحور المعتدلين، فتفرز الأوراق المخلوطة من جديد، بما يحقق أهداف الأجندة الأمريكية الإسرائيلية وحدها. فهل يجرؤ قادتنا وزعماؤنا على الاجتماع في هذه الظروف، ومناقشة الأزمات المطروحة بروح المصالح الوطنية والقومية، بعيدا عن الأجندة الأجنبية، أم أن خلط الأوراق قد أعمى البصر والبصيرة؟ أمام القمة العربية القادمة، طريقان، إما الحد الأدنى من التوافق على الرؤى السياسية درءا لمخاطر ملتهبة قائمة وكامنة، وإما الخلاف فالانقسام والانشقاق والتخندق في المحاور المتواجهة، المتكئة على أحلاف وحلفاء من خارج الإقليم، لهم أجندتهم وعندهم أوراقهم، وهي حتما غير أجندتنا وأوراقنا.