الشرق الاوسط :24/11/2008 حين يُسارع مئات الطلاب والدبلوماسيين والإعلاميين والمفكرين للاستماع إلى صوت عربي في الأكاديمية الدبلوماسية في لندن والأكاديمية الدبلوماسية في فيينا، وحين يصفّق هذا الجمهور لحقّ العرب في العيش أحراراً من الاحتلال، واعتبار هذا الحقّ أهمّ وأقدس حقوق الإنسان على الإطلاق، لا شكّ أنّ هذا يعني أنّ تغيّيراً حقيقياً قد حصل في العالم، وأنّ على العرب التفكير مليّاً لفهم طبيعة هذا التغيير، وإدراك طبيعة الأعمال المستقبلية التي تمكنهم من الاستفادة منه واستثماره. وحين تنشر جريدة الهيرالد تريبيون مقالاً مطوّلاً على صفحتها الأولى عن شباب حزب الله، وتنشر صوراً لهم بثياب أنيقة، وأوجه وسيمة، وحركات منضبطة، هذا يعني أنّ هناك تغييراً حقيقياً يحدث في العالم. وحين يؤكّد مسؤولون أوروبيون على أنّ بعض الأصوات المتعصّبة في الغرب والمعادية للعرب والمسلمين هي أصوات نشاذ، وعلى الإعلام العربي ألا يوليها اهتماماً وألا يفرد لها مساحة بل أن يهملها كي لا يعطيها القيمة والفرصة التي تنبغي، هذا يعني أنّ هناك تغييراً حقيقياً في العالم اليوم. ولكنّ السؤال الذي سوف يتبادر إلى ذهن المواطن العربيّ وهو يقرأ استنتاجاتي هذه، هو ما هي أهمية التغيير إذا كان أهلنا في غزّة اليوم يعانون من حرب إبادة حقيقية، وإذا كان أهلنا في الخليل يعيشون في خوف من مستوطنين حاقدين يرعبون الأطفال في مدارسهم، والمزارعين في حقولهم، ويحوّلون حياتهم إلى جحيم لا يُطاق؟ كيف يمكن لنا أن نقول إنّ تغييراً في العالم يحدث وقد قتلت إسرائيل الأحد الماضي أربعة شباب فلسطينيين بعمر الورد لم ترد صورة، أو حتى اسم، أيّ منهم في أيّ جريدة أجنبية، وكأنّ شيئاً لم يحدث، وكأنّ حقّ طلال حسين العامودي ومحمد حسونة وأحمد الحلو وباسل العف، وجميعهم في بدايات العشرينات، كأنّ حقّهم في الحياة غير مشمول بحقوق الإنسان التي يتحدثون عنها أو، بالأحرى وبالحقيقة، يتاجرون بها لأغراض سياسية ولتحقيق غاياتهم ومآربهم المختلفة. الجواب على هذه الإشكالية هو هدفي الحقيقيّ من إثارة هذا الموضوع اليوم، موضوع التغيير في العالم، وموقع العرب منه، وواجب العرب تجاه أنفسهم وقضاياهم في مسار هذا التغيير. فإذا كان التغيير قد بدأ في العالم، وقد بدأ بالفعل، فهذا لا يعني أنّ على العرب أن يجلسوا متفرّجين كي يستكمل التغيير مساره قادماً إليهم بجميع حقوقهم المغتصبة على طبق من فضة. بل هذا يعني أنّ هناك فرصة واقعية للعرب كي يستغلوها ويحسنوا استثمارها ويضعوا الخطط المتعددة المحلية والإقليمية والدولية لمقارعة أعدائنا بالأسلوب ذاته الذي تمكنوا من خلاله، وعلى مدى عشرات السنين، من إقناع العالم بالتزام الصمت حيال أبشع الجرائم التي ترتكب بحقّ العرب في بلدان مختلفة. أي أنّ نبني الآراء التي تؤيد قضايانا لبنة لبنة، وأن ننتهز جميع الفرص المتاحة لنا في جميع عواصم ومدن العالم في محاولة جادة وبنّاءة ومدروسة لتغيير الرأي العام العالمي من صمت وترقّب إلى فعل ودعم ومساندة. لقد ولّى ذلك الزمن الذي يُتّهم فيه كلّ من ينتقد سياسات إسرائيل باللاسامية، وأخذ عدد أكبر من اليهود في العالم يميّز بين كونه يهودياً وبين الدعم لإسرائيل، ويكتب ويناقش عدد كبير من يهود العالم في أرجاء متفرّقة منه ضدّ جرائم إسرائيل التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين. كما لا يستطيع أحد أن يدافع عن المستوطنين وجرائمهم، والغالبية العظمى تدرك أنّ هؤلاء المستوطنين هم من الدرك الأسفل من البشر أتوا بحثاً عن منزل أو خلاص شخصي فردي على حساب حقوق سكان أصليين متجذرين في الأرض والجغرافيا. كما أنّ أعداد العرب والمسلمين في الغرب والمساندين لقضاياهم هي في ازدياد، وقدرتهم على إثارة مواضيع الاحتلال والاستيطان وحقّ اللاجئين في العودة، وحقّ العرب في استعادة أراضيهم المحتلة هي قدرة متنامية متصاعدة دون أدنى شكّ. كما أنّ الغرب بمجمله قد توصّل إلى قناعة مهمة جداً، خاصة بعد تجربة جورج بوش والمحافظين الجدد في إدارة الأزمات، بأنّ الأزمات السياسية والاجتماعية والإنسانية، مهما بدت بعيدة جغرافياً، هي أزمات ذات ارتداد على الجميع وذات عواقب تطال الجميع مهما اعتقدوا أنهم في منأى عنها بسبب بعدهم الجغرافي. هذه القناعة بحدّ ذاتها تكتسب أهمية كبرى للتخلّص من رؤية بوش والتي قسّمت العالم إلى قسمين وأباحت لقسم منه احتلال وتعذيب وإهانة وانتهاك حرمات القسم الآخر بذريعة مكافحة الإرهاب والتخلّص من الإرهابيين. لكنّ هذه الفرصة تتطلّب من العرب عملاً نوعياً مختلفاً، وإدارة إعلامية مختلفة للمعلومة القادمة من الغرب وللمعلومة المصنوعة في الشرق. صحيح أنّ شهداء غزّة الأربعة لم يذكروا في الصحف الأجنبية، ولكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ ذكرهم في الإعلام العربي كان خجولاً جداً. لماذا نعتبر صفة ناشط تهمة تستحقّ القتل، ولماذا نستخدم هذه الصفة بالإشارة إلى شهدائنا؟ هم شباب في عمر الورد في بداية العشرينات، علّ ذنبهم الوحيد هو الإيمان بالعيش على أرضهم أحراراً من براثن وقيود وجرائم الاحتلال. أين هي صورهم وصور أسرهم؟ وأين هي قصصهم وحكاياتهم وأحلامهم التي تنقل للعرب والعالم أبعاد الجريمة البشعة المرتكبة بحقّ شباب بريء مؤمن بالحرية والاستقلال؟ حين نتمكن من حكاية القصة كما يجب أن تحكى لشعبنا وأهلنا، يمكن لنا أن نحملها إلى برلمانات العالم وإلى جامعاتهم وكنائسهم ومسارح ملتقياتهم لقد أصبح من غير المنطق أن ترفض فضائيات عربية عرض مسلسل «الاجتياح»، والذي يصوّر اجتياح جنين بينما تفوّق العمل فنياً على مئات الأعمال العالمية، وقد ينال الجائزة الأولى من أهمّ مؤسسة للأعمال الدرامية والمسرحية. لقد أخذ البعض في الغرب يخطو خطواتٍ جرئية بدعم الحقّ العربي، فهل يمكن لنا نحن العرب أن نصيغ حكاياتنا ونمتلك الجرأة لنرويها في أشكال ومواقع مختلفة؟ والتحدي اليوم هو أمام الفضائيات العربية أن تمتلك الجرأة لتعرض «فيلم الاحتلال» الذي فاز بجائزة بيفرلي هيلز 2006، ومسلسل الاجتياح وغيرها كي لا نتخلّف عمّن يدعمون حقوقنا في الغرب. متى كان الجمهور يسأل مسؤولين غربيين لماذا تضعون شروطاً على العرب بالاعتراف بإسرائيل قبل التفاوض وتتجاهلون حقّ تقرير المصير والذي هو حقّ أساسيّ ضمنته جميع الشرائع والقوانين الدولية؟ نحن على أبواب عالم جديد يعيد تشكيل الرؤى والقناعات والسياسات، ومكانة العرب في هذا العالم تعتمد على مدى الجهد الذي يبذلونه ومدى الأحلام والرؤى التي يحملونها من أمتهم إلى المنابر والساحات الدولية. صحيح أنّ هذا لا يغيّر خارطة الاحتلال والقوى العسكرية التي تدعمه، ولكنّ هذه القوى لم تكن قادرة على تنفيذ جرائمها لولا تشكيل القناعات في الغرب أولاً عن الظلم الذي لحق بهم، وحاجتهم إلى الأمن واضطرارهم للدفاع عن أمنهم. إذاً وقبل كلّ شيء، على العرب أن يرفعوا الغطاء عن الوجه الحقيقي للجرائم التي ترتكب بحقّهم، وذلك من خلال التواجد الدائم في كلّ محفل دولي، والحديث بلغة واحدة عمّا يجري في غزّة والخليل والجولان، وتسليط الضوء على الجرائم التي ترتكب بحقّ أهلنا في العراق وفلسطين والصومال أيضاً. كما تكمن الخطوة الأخرى في تنظيم وتكثيف أنشطة المغتربين العرب والمتحدّرين من أصول عربية وأصدقائهم وأبنائهم ليكونوا الصوت المدافع عن الحقوق والعدالة، مما يعزّز انتماءهم وإحساسهم بقضاياهم وخدمتهم بالتالي لهذه القضايا. وعلينا ألا نفترض بعد اليوم أنّ الغرب لا يريد أو لا يهتمّ، أو لا يمكن التأثير فيه، فالفرصة الحقيقية سانحة بالتأكيد على أن نطوّر نحن أسلوب عرض قضايانا، وأن نستخدم اللغة التي يفهمون، وندخل عليهم من الأبواب التي يعرفون ويلجون باستمرار. وبهذا المعنى، فإنّ نقل المعاناة التي لا تطاق لأهلنا في غزّة والخليل وبلعين هو مسؤولية العرب أنفسهم، ولا عجب أنّ العالم لا يذكر شهداءنا إذا لم نحمل أسماءهم وقصصهم نحن ونفرضها على الأجندة العالمية. لقد ابتكر المناضلون ضدّ التمييز العنصري في جنوب إفريقيا أساليب متعددة ليبرهنوا للعالم أحقّية قضيتهم من المقاطعة إلى الأنشطة الشبابية والثقافية والاجتماعية، وحملوا قضاياهم إلى كلّ أرجاء المعمورة إلى أن تشكّلت القناعة لدى الرأي العام العالمي بضرورة إنهاء نظام الفصل العنصري. ثمّ إنّ الغرب يحتوي اليوم على تيارات مختلفة، ومنها البعض الذي لا يريد أن يسمع صوت العرب، وعلى إعلامنا العربيّ ألا يضخّم من حجم وقدرة هذا التيار، بل أن يهمله وأن يسلّط الأضواء على الأصوات التي تؤمن بحقّ العرب ويعطي مساحة أكبر للحوار الدائر فعلاً في الغرب على أن نكون جزءاً فاعلاً بل ومحرّكاً لهذا الحوار. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لو أنّ جريدة الهيرالد تريبيون (21/11/2008) قد نشرت مقالاً يتناول حزب الله لرأيت ترجمة للمقال في معظم الصحف العربية، أما وأنّ المقال معقول ومدروس، فلم تأتِ على ذكره أيّ وسيلة إعلام عربية. كي نقنع الآخرين بالوقوف صفاً واحداً مع أهلنا في غزّة والخليل، علينا نحن أن نحسم خياراتنا وأن نحسّن أدواتنا وأن نتقن لغتنا ولغة الآخر، وأن نشحذ الهمم ونمتلك الإيمان بالانتصار، فالطريق وعرة ولكنها سالكة وليست مستحيلة على الإطلاق. موقع العرب في عالم الغد يعتمد على مدى ونوعية مساهمتهم الحقيقية في عالم اليوم، وعالم اليوم يمتدّ خارج حدود العالم العربي ليشمل العالم بأسره.