اذا كنت تسير علي قدميك في أحد الشوارع أو الميادين فستجد علي الجدران وأعمدة الكباري ملصقات واعلانات بعضها يبشرك بوجود مراكز طبية متخصصة وعيادات وأطباء يملكون خبرات وقدرات علي شفاء الأمراض المستعصية.. وإذا كنت تقود سيارتك أو تستخدم احدي المواصلات فستجد من يلقي عليك اعلانات وملصقات دعائية عن نفس المراكز والأطباء! الجميع يحاصرونك.. والجميع يدعون أنهم نجحوا في اكتشاف وتجريب علاج يشفي من الشلل ويجعل المريض قادرا علي الوقوف والمشي والحركة مرة أخري.. وبعضهم يدعي أنه قادر علي علاج البواسير بدون جراحة والبعض يبشر المرضي بنجاحه في علاج أمراض واصابات المخ الصعبة وآلام الظهر, والبعض يدعي قدرته علي العلاج الطبيعي للألم والشلل ومابعد الكسور وغيرها من الدعاية التي تلاحقك حتي لو أغلقت علي نفسك أبواب بيتك وفتحت الكمبيوتر فستجد علي شبكة الانترنت العالمية من يدعي أنه سبق العالم بعشرين عاما في علاج أمراض واصابات المخ والعمود الفقري! ماهي الحقيقة؟ وهل نترك المواطنين ليقعوا ضحية وفريسة لهؤلاء المدعين؟ وأين نقابة الأطباء ووزارة الصحة؟ في محاولة للتأكد من صدق أحد الأطباء الذي أعلن أنه اخترع جهازا جديدا لعلاج ضمور خلايا المخ وأنه نجح في علاج طفل استطاع ان يتكلم, وارتفع مستوي ذكائه, توجهنا الي اكاديمية البحث العلمي التي فجرت مفاجأة وهي أنها رفضت منح هذا الطبيب براءة اختراع! ومن داخل أحد المراكز المعلنة التقينا سيدة جاءت للعلاج حسب الاعلان للتخلص من آلام خشونة الركبة وتحقيق حلم شفائها المستحيل بأنها تعاني حالة خشونة متقدمة وتحتاج لتغيير مفصل, ولتجنب إجراء العملية لجأت لأخذ حقن في الركبة وكان التحسن طفيفا لكونها مسكنات. وكان من بين المترددين رجل يعاني الشلل نتيجة حادث سيارة أصابه بقطع في النخاع الشوكي وبعد كثرة تردده علي الاطباء الذين اشاروا اليه بصعوبة الشفاء نظرا لان تقاريره الطبية علي مدي عامين أثبتت عدم التئام الاعصاب, وبالرغم من هذه النتائج اعتبر الإعلان طوق النجاة له. ولكن ما موقف الاطباء المتخصصين من هذه الاعلانات؟ يتساءل الدكتور ماجد عبدالنصير أستاذ المخ والأعصاب بقصر العيني عن عدة أمور ويطالب الجمهور بالاستفسار عنها قبل الإقدام علي مثل هذا العلاج, وهي: هل المعالج لديه شهادة علمية تثبت أنه طبيب ولديه ترخيص أو موافقة لمزاولة النشاط الطبي أم أنها مجرد ادعاءات تستغل حاجة المصابين بأمراض مستعصية للعلاج وإيهامهم بمقدرة البعض علي علاجها دون سند علمي يبين مصداقية ادعاءاتهم في الشفاء التام من المرض, في حين أثبتت الوقائع ان مايحدث مجرد وهم!! أوضح الدكتور أيمن يوسف رئيس قسم الأعصاب بكلية طب الاسكندرية أنه فيما يثار عن استخدام جهاز خاص بتنبيه المخ كهربائيا لعلاج أمراض وإصابات المخ والعمود الفقري قد يكون من الممكن نظريا, أما الحكم عليه فلا يمكن إلا بعد تجربته بشكل علمي دقيق مع اتخاذ جميع الاحتياطات, والاثار الجانبية في المدي البعيد والقريب, ولكن الأدعياء يضيعون الفرصة علي المرضي ويستنزفون أموالهم وأوقاتهم بالخيالات. والواقع أن هذه الظاهرة قديمة متجددة حيث يظهر كل فترة شخص يدعي قيامه بمثل ذلك, في الوقت الذي يخضع فيه اختراع منتج عن طريق شركات عالمية متخصصة إلي العديد من الدراسات ولا يعترف به دوليا إلا بعد تجربته والتحقق من فاعليته وبعد أن يحصل علي موافقات تسمح باستعماله. ويضيف ان المريض يكون كالغريق الذي يلتمس النجاة بالقش العائم وعند سماعه عن مثل تلك الادعاءات يذهب إليها ومن هنا تنشأ عمليات الإيهام بعلاج المريض خلال فترة علاجه لديهم. كما أن الأمانة في الطب تقتضي من الطبيب أن يقوم بتحويل المريض الذي يأتي إليه في عيادته او محل عمله في حالة عدم تخصصه الي الطبيب المختص, فما بالك بادعاء الكذب في القدرة علي الشفاء! ولأن كثيرا من مرتادي هذه المراكز يسعون لعلاج الامراض الروماتيزمية وهو مجال مليء بالاكاذيب والحقائق أكد الدكتور ميشيل اسحق إخصائي جراحة العظام والمفاصل بالمعهد القومي للجهاز الحركي العصبي أن90% من أمراض الروماتيزم تشفي تلقائيا أو بالعلاج المناسب. وكثير من الأمراض كخشونة الركبة المتقدمة وضمور عضلة الفخذ واصابات الاعصاب الطرفية والمركزية لايمكن الادعاء بعلاجها نهائيا, وإنما يتمثل الحل في السيطرة علي المضاعفات. بينما تدعي بعض المراكز أن لديها علاجات نهائية, ولكنها تندرج تحت بند تخفيف الالام بمنع التقلص العضلي او ارتخاء العضلات المتقلصة ولكن من المهم أن تكون باشراف طبيب, فالمشكلة ليست تهدئة الألم وتسكينه بقدر التشخيص السليم فهو الخطوة الاولي للعلاج السليم. من جانبه حدد الدكتور عبدالمنعم البربري رئيس لجنة التحقيق وآداب المهنة بنقابة الاطباء دور النقابة في توعية المواطنين اذا رأت اي شيء يثير بلبلة في أمر من أمور الطب فإنها تبادر بتوضيح الموقف.. ونبه لثغرة يلجأ اليها الأطباء لأخذ تصريح لنشر اعلاناتهم من وزارة الصحة نظير رسوم معينة, وما يتبعه من تخيل الطبيب انه يسير في الاتجاه الشرعي مع ان القانون حدد طرق نشر الاعلان مما يستدعي محاسبة هذا الطبيب ولفت نظره في حالة عدم معرفته بذلك مع كتابة اقرار بعدم تكرار هذا الامر. وأشار لكثرة شكاوي المرضي بعد استخدام الاعلان من عدم فاعلية العلاج وارتفاع تكاليفه, وفي هذه الحالة يتم فحص الشكاوي وتحديد السبب الذي يكون عادة باستخدام وسيلة علاج معترف بها او العكس. ويصدر حكم الهيئة التأديبية بلفت نظر أو إنذار وقد يصل لحد الوقف عن مزاولة النشاط, وفي حالة وسيلة العلاج المعترف بها وغير الفاعلة فلا يحاسب الطبيب لان العقد المبرم بين الطبيب والمريض بموجب دفع الكشف ينص علي بذل الجهد وليس الشفاء والطبيب يجتهد بعلمه للعلاج وهو غير ضامن الشفاء. أما الإعلان عن استخدام اجهزة جديدة للعلاج فلابد من تصريح مزاولة واعتماد من إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة, وبالنسبة للاجهزة المستوردة من الخارج فهي معترف بها. ألقي الدكتور احمد حسن نقيب العلاج الطبيعي بمسئولية ضبط الشارع الطبي بما يحتويه من مراكز للعلاج الطبيعي علي الإدارة العامة للعلاج الحر والتراخيص الطبية بوزارة الصحة, حيث ينحصر دور النقابة في هذا الشأن علي الإبلاغ فقط عن المخالفين لانه ليست لديها صفة الضبطية القضائية. وأضاف ان مهنة العلاج الطبيعي من أركان الرعاية الصحية الحديثة وهي موجودة في كل التخصصات الطبية الدقيقة, وتكمن المشكلة في كيفية التصدي لدخلاء المهنة بعد أن أصبح مصدر رزق لهم. مما يمثل مخالفة قانونية تستوجب العقاب, وسرقة واضحة للمرضي واستنزافا لأموالهم فهم ليسوا علي دراية كاملة بقواعد وخفايا العلاج الطبيعي, وطالب المتخصصين وأصحاب القرار بتغليظ أدوات الردع للمخالفين. وكان للطب النفسي رأي لمواجهة هذه الظاهرة يقول الدكتور نبيل الزهار استاذ علم النفس وعميد كلية التربية بجامعة6 اكتوبر علينا ان نعمل حركة معاكسة للتصدي الي إعلانات بعض أدعياء الطب لتبصير الناس بما هو ممكن وبما هو خارج عن المنطق, والطب بشكل عام له حدود وان كان يتطور بشكل سريع. وعلي اجهزة الاعلام ألا تبجل مثل هؤلاء الاشخاص وتعطيهم المساحة الواسعة بقصد البحث عن الإثارة الخبرية, في الوقت المطلوب منها كشفهم للمجتمع. حيث يستغلون كون المريض يبحث عن اي بصيص أمل نحو الشفاء وللاسف نجد بعض وسائل الإعلام تروج لهم وتهول إنجازاتهم, في الوقت الذي يوجد لدينا كوادر طبية متخصصة يجب الاعتماد عليها في طلب الخدمات الطبية المختلفة حيث إن الحاجة تطلب من أهلها. حملنا ما جمعناه من إعلانات من مناطق مختلفة ومعها عدة تساؤلات عن مواجهتها ؟ والإجراءات المضادة للأخطاء المهنية المترتبة عليها ؟ وماذا عن شأن الأجهزة الطبية المستعملة في أيدي المشتغلين في الطب ومدعيه ؟... في محاولة للرد توجهنا إلي إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة وهي الإدارة العامة للمؤسسات العلاجية غير الحكومية والتراخيص العلاجية والمنوطة بمراقبة وضبط ادائها. أوضح الدكتور أحمد الزين مدير عام الإدارة العامة للتراخيص الطبية بوزارة الصحة ان تنظيم عمل المنشآت الطبية الخاصة يخضع لقانون رقم153 لسنة2004 والذي حدد أنواع المنشآت الطبية الخاصة في5 أنواع هي العيادات الخاصة, والعيادات التخصصية, المراكز الطبية التخصصية, المستشفي, دار النقاهة. ويتم منح التراخيص ومراقبة ادائهم وفقا لهذا القانون بما يوفر امن وسلامة المريض والطبيب معا. وفي بعض الأحيان لا يلتزم اصحاب المنشآت الطبية الخاصة بتخصص منشآتهم ويروجون لمراكزهم بانه الوحيد والأول في كذا وكذا, ويصل البعض في إعلانهم الي حد إجراء جراحات بدون بنج أو ألم, مثل إزالة البواسير بدون جراحة أو آلم. وفي هذه الحالة يتم تطبيق نصوص القانون فنجد ان هناك مخالفتين علي الاقل الاولي وهي الإعلان بدون موافقة كتابية من وزارة الصحة, وهذه الموافقة تتطلب ان يكون المركز مرخصا مكانيا ومسجلا في نقابة الاطباء. وان يكون الإعلان عن تخصص المركز فقط بدون ذكر اي طرق علاج أخري طبقا للمادة10 من القانون السالف ذكره, وتكون تلك هي المخالفة الثانية. وقد تكون المخالفة الثالثة عدم توافر الأجهزة اللازمة لسلامة وأمن المريض في غرف العمليات والعناية المركزة والإفاقة, إلي جانب احتمال وجود مخالفات أخري مثل عدم تطبيق برامج الجودة وعدم الالتزام بقواعد مكافحة انتشار العدوي. وأشار إلي أن الوزارة لديها مشروع قومي لحصر المنشآت الطبية, ويتم تشكيل لجان من الوزارة وإدارات العلاج الحر بالمديريات المختلفة للمرور الميداني علي تلك المنشآت ومراجعة جميع بياناتها بما في ذلك الترخيص والتسجيل ومطابقة العاملين فيها للشروط المذكورة بالقانون مع التأكد من الالتزام ببرنامج الجودة ومكافحة انتشار العدوي. ويفيد ايضا المرور الدوري والمفاجيء لمن يعملون بدون ترخيص حيث يسارعون بتقديم أوراقهم. وفي هذه الحالة تراجع لجنة من النقابة مدي صلاحية المنشأة حتي يتم تسجيلها بالنقابة, ثم لجنة أخري من مديرية الشئون الصحية للتفتيش عليها ايضا قبل الترخيص لها بالعمل, ثم لجنة أخري من وزارة الصحة للتفتيش للتأكد من صلاحية الإجراءات والاشتراطات الخاصة بها. وعند نقص اي من هذه الاشتراطات يتم تطبيق مادة العقوبات المنصوص عليها قانونا والمناسبة مع الشرط غير المتوافر, والتي لا تقل الغرامة فيها عن ألف جنيه ولا تزيد علي خمسين ألف جنيه مع السجن مدة لا تزيد علي سنتين وغلق المنشأة بالشمع الأحمر. وأضاف أن تقييم الاكتشافات والاختراعات الطبية في مجال الاجهزة والعقاقير وغيرها يخضع لإدارة نظم العلاج المستحدث, وهي التي رفضت الاختراع محل الإعلان المذكور منذ8 سنوات وحتي الآن لعدم توافر الابحاث العلمية التي تؤيده. كما أكد أن الوزارة لا تمل من محاربة ما يسمي بالغش الطبي حيث شهد العام الماضي غلق1299 منشأة طبية في تخصصات مختلفة. ولكنه اشار لضرورة المواجهة المجتمعية المشتركة لحالة الشعوذة الطبية المنتشرة حاليا, وعدم الاكتفاء بالوضع الحالي المرتبط بمسئولية الوزارة عن النواحي الإدارية وتنفيذ العقوبات وتحويل الجوانب الفنية الي لجنة آداب المهنة بالنقابة المهنية المختصة مع التحويل للطب الشرعي في حالة الأخطاء الطبية. ضاربا المثل بغرفة مقدمي الخدمة الطبية التي جاءت نتيجة للتعاون المشترك بين الوزارات والتي تقييم الاجهزة الطبية وتسجيلها, إضافة الي لجنة الرقابة علي نظم العلاج المستحدث التي تشترط ان يكون الجهاز مرخصا بما يشمل الجانبين العلمي والتطبيقي. واخيرا يثور سؤال: هل يقتضي الأمر توحيد جهود الجهات المعنية وإعادة دراسة التشريعات الطبية لوضع المهن الطبية وإعلاناتها تحت رقابة قانونية حازمة في ظل تقسيم مسئولية ضبط الشارع الطبي علي العديد من الأطراف كخطوة نحو إغلاق هذا الملف للأبد. بدلا من ان تترك هكذا حتي نفيق علي كارثة انسانية ؟!