أظهر تقرير بريطاني مسرّب كيف أنّ الحكومة العمالية تحاول خوض حرب إعلاميّة سريّة ضدّ تنظيم «القاعدة» من خلال إنشاء وحدة البحوث والمعلومات والاتّصالات (RICU) التابعة لوزارة الداخليّة السنة الماضية. وتعمل هذه الوحدة أيضاً مع وزارة الخارجيّة ووزارة المجتمعات والحكومة المحليّة. هذا التقرير، الذي نشرته أخيراً صحيفة «غارديان» اللندنية، هو عبارة عن ورقة داخليةّ صادرة عن هذه الوحدة. وقد تسبّب نشره بإحراج محطّة «بي بي سي» البريطانيّة، لأنّه يكشف محاولات هذه الوحدة «تشويه شعار تنظيم القاعدة» عبر بثّ معلومات في وسائل الإعلام البريطانيّة، فعلى سبيل المثال، تعمل إذاعة «بي بي سي» في أحد برامجها على إظهار التوتّر بين قيادة القاعدة والمؤيّدين لها. والقول إن وحدة تابعة للحكومة تبث رسائل محرّضة من خلال قناة «بي بي سي» ووسائل إعلاميّة أخرى، مقوضةً بالتالي حرية الإعلام واستقلاليته، له نتائج مضرّة، لأنه سيكون مماثلاً لما حصل قبيل غزو العراق في العام 2003، عندما نشرت حكومة بلير معلومات خاطئة عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ما أدى إلى فقدان ثقة الشعب بالمعلومات التي تنشرها الحكومة وتلك التي تلفقها. وقال ديفد كراوتش، المتحدّث باسم جمعيّة الإعلاميين العاملين ضدّ الحرب، إنّ المعلومات المتعلّقة بهذه الوحدة تثير أسئلة جدية وخطيرة في شأن التغطية الإعلاميّة لما يُسمّى ب «الحرب على الإرهاب»، وأشار إلى «أنّ الاستخبارات البريطانيّة والأميركيّة لها تاريخ معيب حافل بزرع معلومات خاطئة ومضللة في الإعلام». إلا أنّ قناة «بي بي سي» نفت بشدّة أن تكون الوحدة التابعة لوزارة الداخليّة بثّت أيّ معلومات في برنامج من برامجها الإذاعيّة. ومع أنّ اسم هذا البرنامج لم يرد في التقرير، لكن من المفترض أن يكون البرنامج السياسي الذي قُدّم في السابع من آب (أغسطس) وأعادت بثّه قناة «بي بي سي» العالميّة. واستقبل برنامج «أعداء القاعدة من داخلها»، الذي يقدّمه فرانك غاردنر، المراسل الأمني لل «بي بي سي»، عدداً من المفكّرين الذين كانوا مقربين من قياديي القاعدة، لكنّهم الآن يتحدّون علناً أهداف هذا التنظيم وإستراتيجيته وعمليّات القتل الفادحة التي ينفّذها. ومن بين هؤلاء الضيوف: العلامة السعودي الشيخ سلمان العودة، والليبي نعمان بن عثمان، والسيّد إمام الشريف، المعروف بلقب الدكتور فضل، المفكّر المصريّ الذي كان يعمل مع تنظيم القاعدة وقضى فترة من حياته في السجن، ويصفه غاردنر بأنّه «عرّاب الفكر الجهادي والرجل الذي اعتمدت القاعدة على أوامره وتعليماته سنين طويلة». وعلى رغم أنّ إذاعة «بي بي سي» نفت أن تكون قد تلقّت أي معلومات لإعداد برنامجها التحليلي من الوحدة التابعة لوزارة الداخليّة، إلا أنّ نيكولا مايرك، المدير التنفيذي لفرع «المحليّات»، أقرّ بأنّ فرانك غاردنر والمخرج الذي يعمل معه كانا على اتّصال بهذه الوحدة خلال إعداد البرنامج والتقيا بعض العاملين فيها بعد تسجيل المقابلات. وعلى حدّ قوله، فهما اطّلعا من العاملين في هذه الوحدة على بعض المعلومات التي لم يتمّ استخدامها في البرنامج. وذكر غاردنر في برنامجه أنّ الحكومة البريطانيّة ترى في الانتقادات التي يوجّهها للقاعدة أشخاص كانوا مقربين منها فرصةً جيّدةً. واعتبر أنّ الحكومة البريطانيّة أصبحت أكثر إدراكاً من السابق لأهميّة تحدّي رسالة القاعدة، أو ما يُعرَف بشعارها. ويجد المسؤولون أنّ الفرصة سانحة لخلق جدار فصل بين المتطرّفين المتشدّدين والمتطرّفين المتأرجحين. في(يونيو) من السنة الماضية، أنشأ الوحدة وزير الداخليّة جون ريد الذي كان معنيّاً جدّاً بقضيّة الخطر الأمني الذي يشكّله المسلمون البريطانيّون المتطرّفون. ففي السابع من تمّوز (يوليو) 2005، شنّ أربعة شبان مسلمين، منهم ثلاثة وُلدوا وعاشوا في بريطانيا، هجمتين انتحاريّتين: الأوّلى في مكان تحت الأرض في العاصمة لندن، والثانية في باص للركّاب، وأودّى ذلك بحياة 52 مواطناً بريئاً. وكان الاعتداء بمثابة صفّارة إنذار، إذ جعل الحكومة البريطانيّة تواجه تساؤلاً كبيراً حول السبب الذي يمكن أن يدفع مواطنين ينتمون إلى جالية تتألف من مليوني مسلم إلى تنفيذ هجوم انتحاريّ لقتل مواطنين آخرين. وأكّد أنّه تمّ الكشف عن عدد كبير من المخطّطات، التي سُجِن عدد من المسلمين البريطانيّين لتورّطهم فيها، واعتبر أنّ الخطر الإرهابيّ حقيقيّ ولا يُستهان به. وأعلن جاكي سميث، وزير الداخليّة، في نيسان (أبريل) من هذه السنة أنّ الاستخبارات تراقب مئتي شبكة وثلاثين مخطّطاً وألفي عنصر من الإرهابيين. وكان جون ريد حذّر في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2006 من أنّ الحكومة قد تخسر «معركة المعتقدات» في وجه تنظيم القاعدة الذي يجذب المزيد من الشباب البريطاني المسلم من خلال كلامه على أهميّة التطرّف، ودعا إلى التصعيد في الحرب الإعلاميّة. ووجد بعض المحلّلين أنّ وحدة البحوث والمعلومات والتواصل التي أنشأها في العام 2007 ليست سوى نسخة عن مركز المعلومات والبحوث الذي أنشِئ في وزارة الخارجيّة خلال الحرب الباردة لمحاربة إعلام الشيوعيين. ورد اسم هذه الوحدة في الإعلام هذه السنة عندما أعدّت كتاباً خاصّاً بالعبارات وسلّمته الى مختلف الوزارات لتُطلع الوزراء والموظّفين المدنيين على اللغة والعبارات التي يستعملها المسلمون في الحديث عن الإرهاب. فمثلاً، من أجل عدم التهجّم على المسلمين، لا يُطلَق على القتلى المتطرّفين اسم «الإسلاميين المتشدّدين» بل «المجرمين»، ويجب عدم استعمال عبارة «التطرّف الإسلامي» أو «الجهاديين الأصوليين» بل «العنف المتطرّف» و «المجرمين القتلى» أو «السفّاحين». والهدف من ذلك هو تفادي إرساء صلة بين الإسلام والإرهاب. وينصح الكتاب أيضاً باستعمال عبارة «القيم المشتركة» عوضاً عن «صراع القيم»، وهي عبارة غالباً ما ترد في الحديث عن صراع الحضارات والثقافات. يذكر ان بعض المحلّلين رفض اعتماد ما يقوله هذا الكتاب، في حين رحبّ به آخرون. واليوم، عاد الكلام على وحدة المعلومات والتواصل إلى الواجهة مع تسرّب التقرير الذي يُظهر ما تحاول الوحدة القيام به من هجوم ضدّ إعلام القاعدة المبنيّ على الادّعاء بالظلم والجور، والذي يصف المسلمين بأنّهم ضحايا الغرب. ويمزج الإعلام الذي يبثه «القاعدة» بين «الخيال والحنان والعاطفة والدين، ويركّز على الاستياء من المسائل المحليّة والعالميّة». الإعلام بسيط ومرن ويلائم أيّ وضع، فيمكنه أن يتناسب مع الأوضاع المحليّة وأن يكون له تأثير في فهم القضايا الداخليّة والخارجيّة وتحليلها. (وبعد نشر المقال الذي تناول التقرير المسرّب، نشرت صحيفة «غارديان» رسالة من أحد القرّاء تقول ببعض من السخرية إنّ قصّة الادّعاء بالظلم التي تُنسَب إلى القاعدة تشبه إلى حدّ كبير الحملة التي قادها بوش وبلير من أجل تبرير الغزو غير المشروع للعراق. وأضاف القارئ أنّ الرأي العامّ العالميّ يتأثّر بالأفعال أكثر ممّا يتأثّر باللف والدوران). هدف هذه الوحدة «ليس رفض الادّعاءات بالظلم بل التخفيف من موقع القاعدة كبطل المسلمين والتقليل من اعتماد العنف والتطرّف كحلّ لمشاكلهم. «وأعدّت الوحدة ملفّاً وصفته بأنّه «أوّل إنتاج أنيق» لها، يحتوي على الحجج والبراهين الأساسيّة التي تُثبت نظريّة «خسارة القاعدة للدعم». وسيتمّ إعداد ملفّات أخرى لاحقاً. ويرد في التقرير ما يلي: «نحن في صدد التفاوض مع شركات اتّصالات مهمّة لإعداد حملات يكون لها وقع كبير تُبَثّ عبر قنوات إعلاميّة وغير إعلاميّة». وستمتدّ حرب الحملات هذه إلى المواقع الإلكترونيّة ومنتديات شبكة الإنترنت. تتكوّن مادّة الحملة الأولى من مزيج من تقارير ومقالات حديثة صادرة عن وسائل إعلام في العالم العربي والشرق الأوسط وأفريقيا الشماليّة وتهتمّ بمسألة «تراجع القاعدة». وستعتمد أيضاً على مقالات من مصادر إعلاميّة غربيّة، مثل «نيويورك تايمز» و «أوبزورفر» و «نيوزويك»، ومواقع إلكترونيّة بريطانيّة وأميركيّة. تتوقّع الوحدة أن تكون وزارة الخارجيّة «المستخدم الأساسيّ والأهمّ» لهذه المعلومات عبر السفارات والقنصليّات التابعة لها، كما أنّها ستتعاون مع وزارات أخرى من أجل الاعتماد على هذه المعلومات في مناقشة مواضيع الإرهاب والتطرّف والمعتقدات. وسيكون على فريق من الموظّفين المدنيين نشر هذه الرسائل الجديدة بين أوسع شريحة من الناس. يطرح فرانك غاردنر، في برنامجه التحليلي، سؤالاً بالغ الأهمّية هو التالي: هل سيؤدّي الانتقاد العقائدي الذي يوجّهه إلى القاعدة أشخاص كانوا، سابقاً، قريبين جدّاً من قيادييها إلى إبعاد الشباب المسلم عن التطرّف؟ إجابةً على السؤال، لا يخفي حنيف قدير شكوكه، وهو جهاديّ سابق ترك تنظيم القاعدة قبل ستّ سنوات عندما كان على وشك المحاربة مع طالبان في أفغانستان. يرأس حنيف قدير حاليّاً منظّمة التغيير الفعّال في شرق لندن، وهي منظّمة تحاول إبعاد الشباب عن الجهاد والعنف. وعندما سأله غاردنر عمّا إذا كان للنقاش العقائدي حول مفهوم الجهاد تأثير فعليّ في الشارع المسلم، أجاب قدير أنّه على رغم أنّ بعض الجهاديين يعود من أرض المعركة مشكّكاً وثائراً على تنظيم القاعدة، إلا أنّ عدد الأشخاص المؤيّدين لفكرة الجهاد والعنف يتزايد. وفي هذه المسألة، ألقى قدير بعض اللوم على السياسة الغربيّة التي تعود على الغرب بالضرر، واعتبر أنّ على الحكومة البريطانيّة بذل جهد أكبر للاستماع إلى مطالب المسلمين. وأضاف قدير: «أرى أنّ نقصاً ما يصيب عمليّة التواصل، وأظنّ أنّه إلى حين إعلان السياسيين والوزراء وغيرهم التزامهم الصريح التعاون والتحاور في شأن كلّ هذه المواضيع الحسّاسة، سيستمرّ ارتفاع نسبة الشباب الذي يحاول التنفيس بهذه الطريقة عن القمع المتأجّج في داخله». وتطرّق غاردنر أيضاً إلى ما يحدث في باكستان الذي يُعَدّ بالغ الأهميّة بالنسبة الى أمن بريطانيا، والذي يضمّ الكثير من المجموعات الإرهابيّة التي تعمل على مهاجمة بريطانيا. وفي هذا الإطار، اعتبر أحمد رشيد، (صحافيّ باكستانيّ)، أنّ القاعدة تمدّدت في شكل هائل منذ أحداث 11 (سبتمبر). ويورد في كتابه الأخير «الوقوع في الفوضى» براهين على أنّ الأمور في باكستان ووسط آسيا تجري وفقاً لتعاليم «القاعدة». ويختم فرانك غاردنر قائلاً: «إنّ الوضع أشبه بصفيحتين أرضيّتين تحتكّان ببعضهما البعض في اتّجاه مختلف. فمن جهة، بدأ نقاش فكريّ عميق بين مفكّرين عرب ينتمون إلى الحركة الجهاديّة وينظرون بموضوعيّة إلى «القاعدة» ويتساءلون عمّا إذا كانت مواقف هذا التنظيم المتطرّفة تعود على المسلمين بالضرر أكثر من المنفعة». ولكن عند النظر إلى ما يحصل فعليّاً على الأرض، «كلّ شيء يسير بالاتجّاه المعاكس، لأنّ عدد المنتسبين إلى الجهاد المتطرّف يزداد، ويشمل مختلف بلدان العالم ومن ضمنها بريطانيا». وقال غاردنر: «غالباً ما تكون لدى المنتسبين إلى الحركات الجهاديّة معلومات سطحيّة عن الإسلام، والعامل الذي يحملهم على اختيار هذا الطريق ليس النقاش العقائدي بل ما يحصل على الأرض وما يرونه على شاشة التلفزيون من مشاهد قتل للمدنيين في أفغانستان على أيدي قوّات عسكريّة غربية، أو وجود قوّات أميركيّة وبريطانيّة في العراق. ومع استمرار المشاكل في هذين البلدين، وعدم التوصّل إلى حلّ لمشكلة فلسطين، فالوقت مبكّر لمعرفة أيّ اتّجاه يسير فيه تنظيم القاعدة». وفي خضمّ هذا كلّه، يتساءل الكثير من المراقبين عن تأثير الرسائل التي تبثّها الوحدة التابعة لوزارة الداخليّة البريطانيّة من أجل محاربة شعار القاعدة وادّعائها بالظلم، طالما أنّ السياسات الغربيّة، وخصوصاًً سياسة الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا، لا تلقى الترحيب والدعم الكافيين من الشعوب التي تجد نفسها عرضةً لهجمات الحركات المتطرّفة. بالإضافة إلى ذلك، مع انتشار الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة في العالم كلّه التي تتسبّب بزيادة الفقر والشدّة في بعض البلدان الإسلاميّة، من الممكن أن يزداد التطرّف وتتفاقم تهديداته.